ليس بدعا من القول وصف “حسن التبعل والتودد” كأحد أبرز وأهم أسباب استقرار البيوت والمنازل، وهي صفة ازدانت بها المرأة المؤمنة العاقلة ونالت عليها الأجر والرفعة في الدنيا والآخرة. فهذه الصفة الجميلة هي العلاج لأغلب مشاكل الأسرة وحصانة قوية ضد انهيار أركانها، ولذلك أولى السابقون اهتماما كبيرا بها، حتى كانت أول ما تتعلمه الفتاة قبل الزواج. فقد كان حسن التبعل علما وفنا يُلقن للفتيات مع باقي العلوم المهمة لحياتهن لإدارة بيوتهن وتربية أبنائهن، وهذا منذ عصر بعيد جدا قبل الإسلام. ما يدل على أنه مطلب فطري في العلاقة الزوجية، وأنه ركيزة من ركائز السعادة الزوجية!
وفي زماننا للأسف أصبحنا نشاهد حسن التبعل والتودد في الشوارع! وسوء التبعل والصدود بين جدران المنازل، وهذا لانتكاس المفاهيم والاستهانة بأوامر الله جل جلاله ونواهيه فكان له تبعات كارثية!
ما هو حسن التبعل وما هو التودد؟
قال ابن منظور في لسان العرب: “وامرأة حسنة التبعل إذا كانت مطاوعة لزوجها محبة له، وفي حديث أسماء الأشهلية إذا أحسنتن تبعل أزواجكن أي مصاحبتهم في الزوجية والعشرة، والبعل والتبعل: حسن العشرة في الزوجين”.
وفي الحديث ” ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة الودود الولود العؤود على زوجها التي إذا آذت أو أوذيت جاءت حتى تأخذ بيد زوجها ثم تقول والله لا أذوق غمضا حتى ترضى”[1]. والعؤود هي التي تعود على زوجها بالنفع.
والوَدُود: الموْدُودَة، لما هي عليه من حسن الخلق، والتَّوَدُّد إلى الزَّوج.[2]
مكانة حسن التبعل والتودد في الإسلام
قال الله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [سورة الأعراف:32[
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير النساء التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره”.[3]
وعن حصين بن محصن رضي الله عنه أن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: “أذات زوج أنت؟”، قالت: نعم، قال:”فأين أنت منه؟”، قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: “فكيف أنت له فإنه جنتك ونارك”[4].
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحصّنت فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا، دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ”[5].
وقال صلى الله عليه وسلم:”الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة” رواه مسلم. وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”[6].
قال ابن تيمية رحمه الله:” قوله (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله) (النساء:34) يقتضى وجوب طاعتها لزوجها مطلقاً: من خدمة وسفر معه وتمكين له وغير ذلك كما دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث (الجبل الأحمر) وفى (السجود) وغير ذلك، كما تجب طاعة الأبوين، ولم يبق الأبوين عليها طاعة: تلك وجبت للأرحام، وهذه وجبت بالعهود”.[7]
وعلى هذه المعاني الجليلة كانت تقوم بيوت الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح، لقد كان تنافسا على مرضاة الله جل جلاله وعلى نيل الأجر والثواب، وليس على من ينال شيئا من حظ نفس ودنيا يهدم البيت!
نموذج عظيم!
إن من أكثر ما يستوقني من قصص الصحابة رضي الله عنهم عند الحديث عن حسن التبعل والتودد وفقه الصحابيات وفهمهن لهذا الواجب، قصة أم سليم رضي الله عنها، فعن أنس رضي الله عنهم قال: ماتَ ابنٌ لأبي طلحة من أم سُليم، فقالت لأهلها: لا تُحدِّثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أُحدِّثه، قال: فجاء فقربتْ إليه عشاءً، فأكل وشرب، فقال: ثُمَّ تصنَّعَتْ له أحسن ما كان تصنَّعُ قبل ذلك، فوقع بها، فلما رأتْ أنه قد شبعَ وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعارُوا عاريتَهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، أَلَهُم أنْ يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسِب ابنك، قال: فغضب! وقال: تركتِني حتى تلطَّختُ، ثم أخبرتِني بابني، فانطلَقَ حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بارك الله لكما في غابر ليلتِكما”، قال: فَحَمَلَتْ، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي معه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المدينة من سفر لا يَطرقها طروقًا، فدنوا من المدينة فضرَبَها المخاض؛ فاحتبس عليها أبو طلحة، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يا ربِّ أنه يُعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، وقد احتبست بما ترى، قال: تقول أم سليم: يا أبا طلحة، ما أَجِدُ الذي كنتُ أجد، انطلقْ فانطلقْنا، قال: وضربها المخاض حين قَدِما فولدت غلامًا، فقالت لي أمي: يا أنس، لا يُرضعه أحدٌ حتى تَغدو به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح احتملتُه فانطلقتُ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فصادفتُه ومعه مِيسَم، فلمَّا رآني قال: “لعلَّ أم سليم ولدَت؟”، قلت: نعم، فوضع المِيسَم، قال: وجئتُ به فوضعته في حجره، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجوة من عجوة المدينة فلاكَها في فيه، حتى ذابتْ ثمَّ قذَفها في فِي الصبيِّ، فجعل الصبيُّ يتلمَّظُها، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انظروا إلى حُبِّ الأنصار التمر”، قال: فمسَح وجهه وسماه عبدالله[8]، وفي رواية البخاري: “قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيتُ لهما تسعةَ أولاد كلهم قد قرأ القرآن”[9].
فلله در أم سليم، قدمت درسا عظيما في الفقه والبصيرة، فكان حسن ظنها بربها مكسبا عظيما لها في الدنيا والآخرة! لقد لخصت لنا كيف تقدم الزوجة الصالحة زوجها على نفسها في مصاب فقد فلذة كبدها، فكان لإيثارها أن رزقها الله بدله تسعة أولاد من أهل القرآن وخاصته! ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه.
هل هي صفة مكتسبة؟
لابد أن نوضح أصل هذه الصفات فهي في بعض النساء طبيعية، من خلقها وسجيتها، طبعت فيها دون اجتهاد منها، تخرج تلقائيا منها، ولا علاقة لذلك بالصلاح، وهي صفة يمكن كسبها أيضا، بالتخلق بها والتطبع بها والاجتهاد في إقامة النفس عليها وتربية الابنة عليها، وقد تكون بسبب رفقة صالحة أو بسبب وسط يعتني بهذا الأمر، وهي مطلب أول عند الزوج، فما الزواج في الأساس إلا حالة من الإشباع العاطفي، الذي ينشده كل من الرجل والمرأة في الطرف الثاني، فإن فُقد وقع الجفاء، وتحل الظلمة على القلوب والبيوت، وسرعان ما تتصدع هذه العلاقة لأول ضربة!
صور من حسن التبعل والتودد
وليس حسن التبعل والتودد مهمة شاقة أو مستعصية فهو ليس إلا كلمة طيبة، وإطراء وثناء، وإسماع الرجل ما يحب أن يسمعه كل رجل! مما يعكس احتراما له ويقوي رجولته ويشعره بمقامه كزوج قوام في البيت.
ما حسن التبعل والتودد إلا طلة المرأة المشرقة، بمظهر أنيق ونظيف، وملبس يقر عين الرجل، وعطر ورائحة جذابة وذلك الحُلي للزينة الذي يميّز المراة بأنوثتها، قال تعالى (أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِى ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍۢ) (الزخرف – 18)، ولا يعني ذلك التزين بثمين المعادن فما تيسر يكفي لإحداث الفرق!
ما التبعل والتودد إلا بصمة أنوثة في بيتها من منظر محبب يسر الزوج ويرق له قلبه، يرافقه حسن الخلق في الخدمة والتعامل، باستعمال العبارات التي يزهر معها قلبه، وبمحبة لا سخط فيها، تحفظ فيها الحسنة وتتغاضى عن السيئة.
والمرأة اللبيبة ترافق زوجها حتى باب الخروج ولا تدعه يخرج إلا وهو راضٍ عنها مسرور بها، فهذه مواقف لن ينساها لها زوجها. وكلما جعلت الزوجة زوجها في مقام لا يناجزه مقام من الناس، حظيت باهتمامه ومحبته، وأقل ما ستناله منه تقديره وامتنانه لها، وعدم تفريطه بها.
إن المرأة اللبيبة تتفقد زوجها في حضرته وغيبته، تستقبله عند دخوله البيت وتودعه عند رحيله، ولا تقبل بغير ذلك ولا تسمح لعمل في البيت أن يشغلها عن هذه المهمة، تكون ابتسامتها أول ما يراه وآخر ما يراه!
وإنه لثابت أن إحسان الترحيب والتوديع من أكثر ما يشد أزر الرجل، ثم سد حاجاته فلا يليق بالحرة أن يجوع زوجها في بيتها ولو صنعت طعاما من أزهد ما تملك، ولا يليق بها أن يفتقد للنوم الهادئ لعدم توفير جو يرتاح فيه الرجل المتعب من شقاء اليوم!
فهذه التفاصيل وهذه الدقائق التي ترعها المرأة كل اهتمامها على بساطتها، هي التي تجعل من البيت جنة، ويصبح هذا البيت سكنا وملجأ ومملكة سعادة! مع الحرص على تفادي أن يقع الخلاف في أوقات يكون فيها الرجل مرهقا ومثقلا، فلا يليق بالعاقلة أن تفتح مشكلة أثناء الطعام أو أثناء التحضر للنوم أو أثناء المرض، وغيره من أوقات يفقد فيها الرجل صبره! وهذا ما يصنع مكانة في قلب الرجل. كما لا يليق بها أن تفتح المواضيع التي تم بتها وتعلم أنها تزعجه أو كل ما ينزع عنهما البركة من غيبة أو إسراف أو ظلم!
وهذا لا يعني أن تكون مجرد تمثال لا يتأثر من أذى، بل تعتاد حسن الخلق في التعبير عن مشاكلها ويبقى الحوار البناء هو أفضل الحلول عند الخلافات، والاحتكام لما يحب الله ويرضى هو البركة والأمان.
وإنما هي عشرة بالمعروف فما تقدمه المرأة من حسن تبعل وتودد ما هو إلا رصيد لها يوم يقع الخلاف، يغفر لها كل خطأ ويعذرها عند الزلل ويجبر معه كل كسر!
فهي تبني بناء من الثقة بصدقها وحسن قصدها بداية، كي لا تتعب عند الملمات والخطوب. وهذا ما تستشعره المحسنة عند وقوع المشكلة، لأن لديها رصيدا يستوجب قاعدة “هل جزاء الإحسان إلا الإحسان”.
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير النساء؟ قال: “التى تطيعه إذا أمر، وتسره إذا نظر، وتحفظه فى نفسها وماله”.[10] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لا طاعة فى معصية الله ، إنما الطاعة في المعروف”.[11]
ثم إن من حسن التبعل والتودد، التهادي، والعناية بما يحبه الزوج، سواء من حيث المأكل أو الملبس أو عادات في البيت. ومن حسن التبعل أن تقر عين زوجها بتربية صالحة لأبنائه وحفظ بيته في غيابه وسد ثغور الإصلاح عند افتقاده وتهوين مصائبه والتخفيف من همومه وما يثقل كاهله.
ولو تأملنا حال ذلك الزوج المهمل الذي يدخل بيته في نكد وكدر ويخرج منه في هم وغم ثم يرى في الشارع أصناف النساء يعرضن أنفسهن بثمن بخس للمشاهدة بالعطور الفواحة! يشتعل قلبه كمدا!
فما فائدة حلال لا يعف الرجل والمرأة! ما فائدة حلال لا يحقق للرجل والمرأة أمنيات الأعزب!
ليس أمرا مستحيلا على المرأة صناعة علاقة قوية مع زوجها ببعض التودد وحسن التبعل فقط، فقد جُبلت القلوب على حب الإحسان والاهتمام، وما الحياة إلا صناعة الذكريات الماتعة، والأنس بمواقف المحبة والمودة. وفي الواقع، يكفي أن تعيش المرأة أنوثتها كاملة لتكون ودودة محسنة لزوجها. وتلك التي تحارب أنوثتها، فتسترجل أو تنحرف عن سبيل المحسنات ستتعب كثيرا لأن البيت بني على تكامل الذكر والأنثى، ولا يمكن أن يقوم على المناكفة والتحدي ونزعات الشر والغلّ وما يهدم الود! فكوني له المرأة يكن لك الرجل!
نماذج من فقه من سبق
إن المرأة العاقلة، تستقيم كما أمر الله ابتغاء مرضاة ربها، وهي موقنة أن ما تقدمه من عشرة بالمعروف وإحسان وحفظ لحقوق زوجها هو رفعة لها في الدارين، لقد كانت علية بنت المهدي (أخت الخليفة العباسي هارون الرشيد):”كثيرة الصلاة ملازمة للمحراب وقراءة القرآن وكانت تتزين وتقول: ما حرم الله شيئاً إلا وقد جعل فيما أحل عوضاً منه، فماذا يحتاج العاصي”.[12]
ويحدثنا التاريخ أن شريحاً قابل الشعبي يوماً، فسأله الشعبي عن حاله في بيته، فقال له:- من عشرين عاماً لم أر ما يغضبني من أهلي، قال له: وكيف ذلك؟ قال شريح: من أول ليلة دخلت على امرأتي، رأيت فيها حسنا فاتناً، وجمالاً نادراًـ قلت لنفسي: فلأطهَّر وأصلى ركعتين شكراً لله، فلما سلمت وجدت زوجتي تصلي بصلاتي، وتسلم بسلامي، فلما خلا البيت من الأصحاب والأصدقاء، قمت إليها، فمددتُ يدى نحوها، فقالت: على رسلك يا أبا أمية، كما أنت، ثم قالت: الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلى على محمد وآله، وإني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك، فبين لي ما تحب فآتيه وما تكره فأتركه، وقالت: إنه كان في قومك من تتزوجه من نسائكم، وفي قومي من الرجال من هو كفء لي، ولكن إذا قضى الله أمراً كان مفعولاً، وقد ملكت فاصنع ما أمرك به الله، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولك. قال شريح: فأحودتني والله يا شعبي إلى خطبة فى ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على النبي وآله وأسلم، وبعد، فإنك قلت كلاماً إن ثبتِّ عليه يكن ذلك حظك، وإن تدعيه يكن حجة عليك، أحب كذا وكذا، وأكره كذا وكذا، وما رأيتِ من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها، فقالت:كيف محبتك لزيارة أهلي؟ قلت: ما أحب أن يمُلني أصهاري، فقالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك فآذن له، ومن تكره فأكره؟ قلت: بنو فلان قوم صالحون. وبنو فلان قوم سوء. قال شريح: فبت معها بأنعم ليلة وعشت معها حَولاً لا أرى إلا ما أحب، فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء، فإذا بفلانة في البيت، قلت: من هي؟ قالوا: خَتَنَك-أي أم زوجك-فالتفتت إليّ، وسألتني: كيف رأيت زوجتك؟ قلت خير زوجة، قالت: يا أبا أمية إن المرأة أسوأ حالاً منها في حالتين: إذا ولدت غلاماً، أو حظيت عند زوجها، فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شراً من المرأة المدللة، فأدب ما شئت أن تؤدب، وهذب ما شئت ما تهذب، فمكثت معها عشرين عاماً لم أعقب عليها في شيئ إلا مرة، وكنت لها ظالماً”.[13]
وفي الختام
تأملي هذه الوصية التي لا تُمل فقها وبصيرة وسعة تجربة:- أوصت أمامة بنت الحارث ابنتها حين زفت إلى زوجها فقالت:
“أي بنيَّة! إنَّ الوصيَّة لو تُرِكَتْ لفضل أدبٍ تُرِكَت لذلك منك؛ ولكنَّها تذْكِرة للغافِل، ومعونة للعاقل، ولو أنَّ امرأةً استَغْنت عن الزَّوج لغنى أبوَيْها وشدَّة حاجتِهِما إليْها، كنْتِ أغْنى النَّاس عنْه، ولكنَّ النِّساء للرِّجال خُلِقْن، ولهنَّ خلق الرِّجال، أي بنيَّة، إنَّك فارقت الجوَّ الَّذي منه خرجْتِ وخلَّفت العشَّ الَّذي فيه درجْتِ، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لَم تأْلفيه، فأصبح بِملكه عليك رقيبًا ومليكًا، فكوني له أَمَةً يكُنْ لك عبدًا وشيكًا، يا بنيَّة، احملي عنِّي عشْر خِصال، تكن لك ذخرًا وذكرًا: الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بِحسن السمع والطاعة، والتعهُّد لموقع عيْنِه، والتفقُّد لموضع أنفِه، فلا تقع عيْنُه منك على قبيح، ولا يشَمَّ منك إلا أطْيَب ريح، والكحل أحسن الحسن، والماء أطْيب الطيب المفقود، والتعهُّد لوقْتِ طعامِه، والهدوء عنه عند منامه، فإنَّ حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، والاحتِفاظ ببيتِه وماله، والإرْعاء على نفْسِه وحشمه وعياله؛ فإنَّ الاحتفاظ بالمال حسن التَّقرير، والإرْعاء على العيال والحشَم جميل حسن التدبير، ولا تفشي له سرًّا، ولا تَعْصي له أمرًا؛ فإنَّك إنْ أَفْشيتِ سرَّه لم تأْمني غدْره، وإن عصيتِ أَمْرَه، أوْغَرت صدْره، ثُمَّ اتَّقي مع ذلك الفرحَ إن كان ترحًا، والاكتِئاب عنده إن كان فرحًا؛ فإن الخصلة الأولى من التَّقصير، والثانية من التَّكدير، وكوني أشدَّ ما تكونين له إعْظامًا، يكن أشدَّ ما يكون لك إكْرامًا، وأشدَّ ما تكونين له موافقة، يكُن أطولَ ما تكونين له مرافقة، واعلمي أنَّك لا تصلين إلى ما تُحبِّين حتَّى تُؤْثِري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببتِ وكرهت، والله يخير لك.
فحُمِلتْ فسُلِّمتْ إليْه فعظمَ موقعها منه، وولدتْ له الملوك السبعة الذين ملكوا بعده اليمن”[14].
وآخر ما أختم به هذه السطور وإن كان موضوعا يستحق الإطالة والتفصيل، قد تتساءل القارئة لماذا لا تذكّرين الزوج بحسن العشرة والمعروف وحسن التبعل والتودد، فأقول إن المعادلة التي لن تخسر معها مؤمنة، هي أن تؤدي ما عليها دون أن تنتظر المقابل، فهي تقدم ما تقدمه لوجه الله لا تنتظر من زوجها مقابلا له، لأن البيعة مع الله جل جلاله، فإن كان أصيل المعدن كريما فاضلا، فسينالها الخير كله وسيكون حاله كحال “إذا أكرمت الكريم ملكته”، ولا تحتاج حينها لمحاسبة ولا عد ولا منّ ولا أذى، وأما إن كان سيء الخلق، وضعيف الهمة والإحساس! فقد قدمت له درسا في الحياة لعلو الهمة وعزة النفس وسخاء العشرة، فإن فارقته يوما لم يجد ما يعايرها به، وإن بقيت واستدرك فسيكون لها فضلا عظيما في استقامته. فهي الفائزة في كل الأحوال وإن تأذت بسوء خلق ومعاملة!
لذلك أيتها المسلمة، لا تكثري إحصاء ما تقدمينه من معروف وإحسان بل احتسبي وكلّك رضا، أن لك ربا يعلم السر وأخفى، خبير بصير بعباده، أحسني الظن به جل جلاله ولن تري إلا خيرا ونصرا وظفرا!.
وأنصح كل مسلمة، مهما كان زوجك سيئ العشرة، لا تتركي له فرصة أن يعايرك بتقصير في هذا الباب، باب حسن التبعل والتودد، فإن له مفعولا كبيرا في الإصلاح، وإن انكسر كل شيء وذهب كل في حال سبيله فلن يملك إلا أن يكون ممتنا لكل دقيقة جمعته بك في خير حال! وأما إن أصلح الله ما بينكما فأنت بعد ذلك في خير نعمة وحال!
والله مولانا نعم المولى ونعم النصير.
[1] صحيح الجامع 2604
[2] نيل الأوطار للشوكاني (6/104-105)
[3] السلسلة الصحيحة 4/ 453
[4] رواه أحمد والنسائي بإسنادين جيدين والحاكم وقال صحيح الإسناد، صحيح الترغيب والترهيب للألباني.
[5] رواه ابن حبّان (1296) وَصححه الألباني فِي “صحيح الجامع” (660)
[6] صحيح ابن حبان والترمذي وصحيح الترغيب.
[7] مجموع الفتاوى (32/260)
[8] صحيح مسلم
[9] صحيح البخاري 1 / 172 رقم: 1301.
[10] رواه النسائي وهو صحيح
[11] رواه البخاري مسلم
[12] أحكام النساء ص138
[13] أحكام النساء صـ134:135 .
[14] (مجمع الأمثال – أبو الفضل النيسابوري)
بارك الله فيكم ولكن انتبهوا إلى الآية قل من حرم حرف القاف مكرر
ما شاء الله كفيت ووفيت مقال عظيم النفع بالغ الاثر وكله بحول الله وقوته جعله الله في ميزان حسنات وبوركت جهودك المتميزة
جزاك الله خير الجزاء
جزاكي الله خير الجزاء