بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.
وقال ابن تيمية رحمه الله:” القَلْبُ إنما خُلِق لأجْلِ حُبِّ اللهِ تعالى… فاللهُ سُبحانَه فطَر عبادَه على محبَّتِه وعبادتِه وَحْدَه، فإذا تُرِكت الفِطرةُ بلا فسادٍ، كان القَلْبُ عارفًا باللهِ مُحِبًّا له عابِدًا له وَحْدَه”[1].
وقال أيضا:” محبة الله، بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله، وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين”.[2]
و”الحب في الله” أجل مقام وأعظم فضل وأسمى غاية .. أن يستنير قلبك بحب الله جل جلاله وأن تنعم ببركات حبه سبحانه، وأن تصل لمرتبة يكون فيها حب الله أهم ما في حياتك .. وكل شيء دونه يهون فذلك سبيل الفوز.
فالمحبة هي الرأس، والخوف والرجاء هما الجناحان، والعبد يسير إلى الله بالمحبة والخوف والرجاء. قال ابن تيمية رحمه الله:” محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء, وأقواها المحبة…فإن قيل أي شيء يحرك القلوب؟ قلنا يحركها شيئان: كثرة الذكر للمحبوب, لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به, والثاني: مطالعة آلائه ونعمائه”[3].
الحديث عن حب الله جل جلاله عظيم جدا يتصدع له القلم وتسجد المعاني خاشعة، فهو طوق النجاة عند الملمات وسراج الأنس في الظلمات، ومنارة الاستدراك عند التيه أو التراجع، من نال فضله وشرفه، لم يغلبه شيطان من إنس ولاجان، ولا تمكن منه عدو مهما أعد وجمع، يحوّل العبد على الرغم من ضعفه لقوة ضاربة في الأرض ونبع عطاء يسقي جوانحها، إنه نفس الروح ونبض القلب وسر السعادة في الدنيا والآخرة.
والسعي لحب الله جل جلاله من أولى أولويات المسلم! إنها مرتبة المحبة التي لا تناجزها مرتبة فكمال العبودية تابع لكمال المحبة. قال ابن القَيِّمِ رحمه الله:”هذا الباعِثُ أكمَلُ بواعِثِ العبوديَّةِ وأقواها، حتى لو فُرِضَ تجَرُّدُه عن الأمرِ والنَّهيِ والثوابِ والعِقابِ، استفرغ الوُسعَ واستخلص القَلْبُ للمعبودِ الحَقِّ”[4].
وقال ابنُ تَيميَّةَ رحمه الله:”ليس للقُلوبِ سُرورٌ ولا لذَّةٌ تامَّةٌ إلَّا في مَحَبَّةِ اللهِ والتقَرُّبِ إليه بما يحبُّه، ولا تمكِنُ محبَّتُه إلَّا بالإعراضِ عن كُلِّ محبوبٍ سِواه، وهذا حقيقةُ لا إلهَ إلَّا اللهُ”[5].
وقال ابن القيم – رحمه الله – عن المحبة: “المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب”[6].
لخص ابن القيم أنواع المحبة في كتابه الداء والدواء فقال:
ههنا أربعة أنواع من المحبة، يجب التفريق بينها؛ وإنما ضلَّ مَن ضَلَّ بعدم التميُّز بينها:
أحدها: محبة الله، ولا تكفي وحدها في النجاة من عذابه، والفوز بثوابه، فإن المشركين وعُبَّاد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله.
الثاني: محبة ما يحبه الله، وهذه هي التي تُدخله في الإسلام، وتُخرجه من الكفر، وأحبُّ الناس إلى الله أقومُهم بهذه المحبة، وأشدهم فيها.
الثالث: الحب لله وفيه، وهي من لوازم محبة ما يحب، ولا تستقيم محبة ما يحب إلا بالحب فيه وله.
الرابع: المحبة مع الله، وهي المحبة الشركية، وكل مَن أحب شيئًا مع الله، لا لله ولا من أجله ولا فيه، فقد اتخذه نِدًّا من دون الله، وهذه محبة المشركين.
وبقي قسم خامس ليس مما نحن فيه؛ وهو المحبة الطبيعية؛ وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه؛ كمحبة العطشان للماء، والجائع للطعام، ومحبة النوم والزوجة والولد، فتلك لا تُذمُّ إلا إذا ألهت عن ذكر الله، وشغلت عن محبته، كما قال تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ (المنافقون: 9).
المحبة المشتركة والمحبة الخاصة
وقال ابن القيم في طريق الهجرتين:
المحبة المشتركة ثلاثة أنوع:
أحدها: محبة طبيعية، كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وغير ذلك، وهذه لا تستلزم التعظيم.
والنوع الثاني: محبة رحمةٍ وإشفاقٍ، كمحبة الوالد لولده الطفل، ونحوها، وهذه أيضًا لا تستلزم التعظيم.
والنوع الثالث: محبة أنسٍ وإلفٍ، وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضًا، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضًا.
فهذه الأنواع الثلاثة هي المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركًا في محبة الله.
وأما المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحبَّ العبد بها غيره كان شركًا لا يغفره الله، فهي محبة العبودية المستلزمة للذُّلِّ والخضوع، والتعظيم وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره
مع التنبيه إلى أن هناك فرق كبير بين الحبِّ في الله والحبِّ مع الله، وهذا من أهم الفروق، وكل محتاج بل مضطر إلى الفرق بين هذا وهذا، فالحبُّ في الله هو من كمال الإيمان، والحبُّ مع الله هو عين الشرك.
والفرق بينهما: أن الحبَّ في الله تابعٌ لمحبة الله، فإذا تمكَّنَتْ محبَّتُه من قلب العبد أوجبت تلك المحبة أن يحب ما يُحبُّه الله، فإذا أحبَّ ما أحبَّه ربُّه ووليُّه كان ذلك الحب له وفيه، كما يحب رُسُلَه وأنبياءه وملائكته وأولياءه لكونه تعالى يحبهم، ويُبغض من يُبغضه لكونه تعالى يبغضه. كما نبه إلى ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح.
أنفع المحبة وأجلُّها وأعلاها محبة الله جل جلاله
قال ابن القيم في الداء والدواء: اعلم أن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلَّها محبة من جُبِلَتْ القلوب على محبته وفُطِرَتْ الخليقة على تَأْليهه، وبها قامت الأرض والسماوات، وعليها فطرت المخلوقات، وهي سِرُّ شهادة أن لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم، والذل والخضوع، وتعبده، والعبادة لا تصح إلا له وحده، والعبادة هي كمال الحب مع كمال الخضوع والذل، والشرك في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله، والله تعالى يُحب لذاته من جميع الوجوه، وما سواه فإنما يُحب تبعًا لمحبته.
ومن منافع وثمار المحبة كما لخصها ابن القيم في الداء والدواء:
تُلطِّف الروح، وتُخفِّف أثقال التكاليف، وتسخي البخيل، وتُشجِّع الجبان، وتُصفِّي الذهن، وتُروِّض النفس، وتُطيِّب الحياة على الحقيقة، لا محبة الصور المحرمة.
وهذه المحبة التي تنور الوجه، وتشرح الصدر، وتُحيي القلب.
وقال في بدائع الفوائد: محبة الرب عبده فإنها تستلزم إعزازه لعبده، وإكرامه إياه، والتنويه بذكره، وإلقاء التعظيم والمهابة له في قلوب أوليائه.
ومحبة الله تأييد ونصر ومعية وأمن وتوفيق وفتح!
الأسباب الموجبة لمحبة الله
روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك: أن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار”.
ولخص ابن القيم – رحمه الله – الأسباب الجالبة لمحبة الله وهي عشرة:
الأول:قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه، وما أريد به، قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ (ص: 29)، وقال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ (محمد: 24).
وقال عبد الله بن مسعود: “لا تنثروه كنثر الدقل، ولا تهذوه كهذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة”.[7]
الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته”.
الثالث: دوام ذكره على كل حال، باللسان والقلب، والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ (الرعد: 28).
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم”.
الرابع: إيثار محابه على محابك، عند غلبة الهوى، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ (التوبة: 24)، فلابد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده، فيحب ما يحبه الله، ويبغض-: ما يبغضه الله، ويوالي فيه، ويعادي فيه، روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”.
وفي صحيح البخاري أن عمر – رضي الله عنه – قال: عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: فإنه الآن لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: الآن يا عمر”.
الخامس: مطالعة القلب لأسماء الله الحسنى وصفاته، ومشاهدتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها، قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (الأعراف: 180).
ومن أعظم هذه النعم: نعمة الهداية لهذا الدين، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ (المائدة: 3).
السابع – وهو أعجبها -: انكسار القلب بين يديه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل”، روى البخاري في صحيحه من حديث شداد بن أوس: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “سيد الاستغفار أن يقول العبد… فذكر الحديث” فجمع في قوله – صلى الله عليه وسلم -: “أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي” بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل، فمشاهدة المنة توجب له المحبة والشكر لولي النعمة والإحسان، ومطالعة عيب النفس، والعمل، توجب الذل والانكسار والافتقار في كل وقت، وألا يرى نفسه إلا مفلسًا، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالًا، ولا مقامًا، ولا سببًا يتعلق به، ولا وسيلة يمن بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف، والإفلاس المحض، دخول من قد كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه، ويرى في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة، وضرورة كاملة إلى ربه، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك، وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود إلى الله ويتداركه برحمته[8].اهـ.
الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي، وتلاوة كتابه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة، قال تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ (الذاريات: 17، 18)، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له؟”.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، وعدم الكلام إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيدًا لحالك، ومنفعة لغيرك، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: “لولا ثلاث ما أحببت العيش في الدنيا: الغزو في سبيل الله، ومكابدة الساعات من الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر”.[9]
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت”.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله – عز وجل.
وهذه الأسباب العشرة توصل المحبين إلى منازل المحبة.
مراتب متفاوتة لحب الله تعالى
قال ابن رجب رحمه الله في اللطائف: “قال بكر المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره”.
قال بعض العلماء المتقدمين: الذي وقر في صدره هو حب الله، والنصيحة لخلقه.
قال ابن تيمية رحمه الله:”الناس في حبِّ الله يتفاوتون ما بين أفضل الخلق محمد وإبراهيم إلى أدنى الناس درجة، مثل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وما بين هذين الحدين من الدرجات ما لا يحصيه إلا رب السموات والأرض”[10].
ففي هذه الدنيا أقوام سبقوا بحب الله جل جلاله وآخرون لا يزالون في مراتب أقل ممن سبقوا وآخرون خرجوا منها ولم يعرفوا نعيم حب الله تعالى بعد!
قال أحد السلف: “مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل وما أطيب ما فيها؟ قال محبه الله تعالى ومعرفته وذكره والأنس به”.
ومن يتأمل أقوال السلف في حب الله يدرك أنه نعيم لا يُبارى!
قال بعض السلف: “إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا، حتى أقول إن كان أهل الجنه في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب”.
وقال عمر بن عبدالعزيز لما مات ولده الصالح: “إن الله أحب قبضه، وإني أعوذ بالله أن يكون لي محبة في شيء من الأمور يخالف محبة الله”، وكان يقول:” أصبحت فما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر”.
وقال عامر بن عبد القيس رحمه الله: “أحببت الله حبًا هوَّن عليَّ كل مصيبة، ورضَّاني بكل بلية، فلا أبالي مع حبي إياه على ما أصبحت، وعلى ما أمسيت”.
وعن الفضيل ابن عياض أن رجلاً سأله فقال: يا أبا علي متى يبلغ الرجل غايته من حب الله تعالى؟ فقال له الفضيل: إذا كان عطاؤه ومنعه إياك عندك سواء، فقد بلغت الغاية من حبه.
وقال ابن تيمية :”من الذنوب ما يكون سببا لخفاء العلم النافع أو بعضه؛ بل يكون سببا لنسيان ما علم، ولاشتباه الحق بالباطل، وتقع الفتن بسبب ذلك”. وأضاف:”كلما كان قلبه في محبة الله وذكره وطاعته كان معلقا بالمحل الأعلى، فلا يزال في علو ما دام كذلك، فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل، فلا يزال في هبوط ما دام كذلك، ووقعت بينه وبين أمثاله عداوة؛ فإن أراد الله به خيرا ثاب وعمل في حال هبوط قلبه إلى أن يستقيم فيصعد قلبه”.[11]
علامات محبة الله للعبد
إن توفر هذه العلامات ليست تزكية للمرء ولا دليلا ثابتا على محبة الله تعالى له، بل هي تعتمد على صلاح حاله وصدقه وإخلاصه وهو أمر لا يعلمه إلا الله جل جلاله، وقد تجتمع جميعها أو بعضها أو قد تُعرف في فترة وتفتقد في أخرى .. لكنها علامات مبشرة .. ووجودها يتطلب الشكر بالقول والعمل .. بمزيد بذل ومسابقة صادقة خالصة.
الهداية للإيمان
قال ابن مسعود رضي الله عنه:”إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله تعالى يعطي المال من أحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب”. رواه الطبراني والبخاري في الأدب المفرد.
فأعظم نعمة على العبد الهداية للإيمان ..
القبول له في الأرض
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:”إذا أحبَّ الله العبدَ نادى جبريل: إن الله يحبُّ فلانًا فأحبِبْه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحِبُّوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض”؛ صحيح البخاري
معرفة الله بأسمائه وصفاته
إن معرفة الله بأسمائه وصفاته من علامات محبة الله للعبد، قال ابن القيم في إغاثة اللهفان:”من كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرفَ، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب؛ وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يُعرفُ إلا بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبًّا لغيره، ولا أُنْسًا به، وكلما ازداد له حبًّا ازداد له عبودية وذلًّا وخضوعًا ورِقًّا له، وحرية عن رقِّ غيره”.
وقال تعالى ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ (الأعراف:180)
قال ابن القيم في الداء والدواء: “القلوب مفطورة مجبولة على محبَّة مَن أنعمَ عليها وأحسنَ إليها، فكيف بمَن كان الإحسان منه؟ وما بخلقه جميعهم من نعمة فمنه وحده لا شريك له، كما قال تعالى ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ (النحل:53) وقال: “فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال، لم يتخلف عن محبة من هذا شأنه، إلا أردأ القلوب وأخبثها، وأشدها نقصاً وأبعدها من كل خير، فإن الله فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، وإذا كانت هذه فطرة الله التي فطر عليها قلوب عباده، فمن المعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً منه سبحانه وتعالى، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعه سبحانه وتعالى، وهو الذي لا يُحد كماله ولا يوصف جلاله وجماله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بجميل صفاته وعظيم إحسانه وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه”. ولما كان حب الله تعالى من أعظم آثار وثمرات معرفة أسماء الله وصفاته، كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى ويدعوه قائلا:”وأسألُكَ حبَّكَ وحبَّ من يحبُّكَ، وحبَّ عملٍ يقرِّبُ إلى حُبِّك” رواه الترمذي.
وقال ابن القيم في طريق الهجرتين: “ليست حاجة الأرواح قطُّ إلى شيءٍ أعظمَ منها إلى معرفة باريها وفاطرها، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلَّما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلَّما كان لها أنكر كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد، والله يُنزِل العبد من نفسه حيث يُنزله العبدُ مِن نفسه. فالسيرُ إلى الله مِن طريق الأَسماءِ والصفات شأنُه عجبٌ، وفتْحُه عجبٌ، صاحبُه قد سِيقتْ له السعادةُ وهو مُسْتَلْقٍ على فراشه غيرُ تَعِبٍ ولا مَكْدُودٍ، ولا مُشتَّتٍ عن وطَنه ولا مُشرَّدٍ عن سَكَنِه”.
ويقول السعدي رحمه الله:”إن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته، ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، والتفقه في فهم معانيها.. بل حقيقة الإيمان أن يعْرف الربّ الذي يؤمن به، ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته، حتى يبلغ درجة اليقين. وبحسب معرفته بربه، يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه، ازداد إيمانه”.
وذلك من تحقيق التوحيد لله جل جلاله، توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وتحقيق التوحيد من علامات حب الله جل جلاله.
الهداية للجهاد
قال ابن تيمية رحمه الله في التحفة العراقية: “الجهاد دليل المحبة الكاملة، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ (التوبة:24) وقال تعالى في صفة المُحبين المحبوبين: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِم﴾ (المائدة:54) فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، وأنهم يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم”.
وقال ابن القيم في مدارج السالكين:” تأخَّر أكثر المحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلُمُّوا إلى بيعة: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾ (التوبة: 111)”.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، والتواب: هو كثير الرجوع إلى الله تعالى؛ بالتوبة، والاستغفار، والعمل الصالح.
كما قال ابن تيمية رحمه الله:” إذا أحبَّ الله عبداً..ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصرّ على الذنوب”.
حفظ الله للعبد من فتن الدنيا وشهواتها وتزهيده فيها
قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمْ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ تَخَافُونَ عَلَيْهِ”. رواه أحمد.
وفي رواية الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ الْمَاءَ”.
ومن جعل الدنيا في يده لا في قلبه أحبه الله.
عندما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :”ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ” رواه ابن ماجه.
ومن تعلق قلبه بالآخرة .. زهد في الدنيا وجعلها وسيلته للوصول إلى منازل الخالدين.
الرفق والحلم والأناة
روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق” رواه ابن أبي الدنيا. وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم:”إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ” رواه البخاري.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس المنذر: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة» (صحيح مسلم).
الابتلاء في الدنيا
قال الله تعالى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، وقال تعالى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾.
وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ (البلد: 4)؛ أي: في مكابدة ومعاناة في هذه الدنيا، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصف الدنيا:”دار أولها بكاء، وأوسطها عناء، وآخرها فناء”؛ وبعد ذلك حساب وجزاء.
وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ” رواه الترمذي ابن ماجه.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها” رواه أبو يعلى وابن حبان.
وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك (يتألم من الحمى)، فوضعت يدي عليه، فوجدت حرَّه بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدَّها عليك؟ قال: “إنا كذلك يُضعَّف لنا البلاء، ويُضعَّف لنا الأجر”، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: “الأنبياء”، قلت: يا رسول الله، ثم من؟ قال: “ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليُبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يجوبها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء، كما يفرح أحدكم بالرخاء”؛ صحيح سنن ابن ماجه.
وقال لقمان الحكيم لابنه: “يا بني إن الذهب والفضة يختبران بالنار، والمؤمن يختبر بالبلاء”.[12]
ثمانية لا بد منها على الفتى ولا بد أن تجري عليه الثمانيه
سرورٌ وهم واجتماعٌ وفرقة ويسرٌ وعسرٌ ثم سقمٌ وعافيهْ
فلا راحة إلا في الجنة .. وأما الدنيا فدار عمل وامتحان ..
يعجل عقوبته في الدنيا إن شاء ولا يستدرجه
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ رَجُلاً لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَ يُلاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: مَهْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أذَهَبَ الشرك وَجَاءَ بِالإِسْلامِ، فتركها وولى، فجعل يلتفتُ خلفه ينظر إليها، حتى أصاب الحائط وجهه، فاخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر، فقال: “أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ عَيْرٌ”. رواه أحمد. وروى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ صلى الله عليه وسلم قَالَ:”إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ” ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ رواه أحمد. والمسلم يسأل الله العفو والعافية ولا يتمنى العقاب، روى أنس بن مالك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:”هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ”؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : “سُبْحَانَ اللَّهِ لا تُطِيقُهُ، أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ”، – وفي رواية: “لا طَاقَةَ لَكَ بِعَذَابِ اللَّهِ- أَفَلا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”؟ قَالَ: فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ، رواه مسلم.
ومن حسن ظن العبد بربه أن يسأله المغفرة والرحمة ..
10. التوفيق للعمل الصالح
روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ فقال: “أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا – يعني مسجد المدينة – ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم تزول الأقدام” رواه الأصبهاني وابن أبي الدنيا.
عن عمرو بن الحمق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إذا أحبَّ اللهُ عبدا عَسَلَه”، قالوا: ما عَسَله يا رسول الله؟ قال: “يوفقُ له عملا صالحا بين يدي أجله حتى يرضى عنه جيرانه- أو قال- من حوله”. رواه ابن حبان والحاكم والبيهقي وفي حديث آخر عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا طَهَّرَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طَهُورُ الْعَبْدِ؟ قَالَ: «عَمَلٌ صَالِحٌ يُلْهِمُهُ إِيَّاهُ، حَتَّى يَقْبِضَهُ عَلَيْهِ» رواه الطبراني. وفي ذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:” من بورك له في شيء فليلزمه”.
تيسير الذكر على الرغم من أن عبادة الذكر سهلة بالوصف إلا أن التوفيق لها فضل من الله، والمداومة على الذكر اجتهادا وتوفيقا .. من علامات حب الله تعالى .. وكذلك كل عبادة تتيسر ويتعلق بها المؤمن ويجد الوحشة بعيدا عنها فهي من علامات الخير والبشرى له .. يضيق صدره إن إضاعها ويسارع لأدائها .. هكذا حال المحبون لربهم المتقربون إليه بالذكر والطاعات .. والذكر من أعظم أسباب المحبة وأدلة المحبة .. فالمحب دائم الذكر لمحبوبه.. الله جل جلاله.
الاستجابة لدعائه وإعاذته مما يستعيذ
إن من علامات حب الله تعالى لعبده المؤمن ورضاه عنه كثرة إجابة دعائه, جاء في الحديث القدسي:” ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.” رواه البخاري. وقال ابن تيمية في الفتاوى:” وأما إجابة السائلين فعام, فإن الله يجيب دعوة المضطر, ودعوة المظلوم وإن كان كافرًا”. ما يعني أن مجرد إجابة الدعاء ليس دليلًا قطعيًا على حب الله تعالى للداعي؛ ولكنها من علامات حب الله للمؤمن المطيع. فلا تبخل على نفسك بدعاء الله التوفيق والتيسير والسداد كل لحظة وحين .. وبالاستعاذة به مما لا تطيقه ولا تقدر عليه .. فلا حول ولا قوة لنا إلا بالله.
حسن الخلق
عن أسامة بن شريك قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسل كأنما على رؤوسنا الطير، ما يتكلم منا متكلم، إذ جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: “أحسنهم خلقا” رواه الطبراني.
وحسن الخلق فضل عظيم وهو من أسباب محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والمراتب العالية في الجنة.
الرؤية الصادقة
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:”لم يبق من النبوة إلا المبشرات”. قالوا: وما المبشرات؟ قال: “الرؤيا الصالحة”. رواه البخاري.
وعنه أن النبي ﷺ قال:”إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة” متفق عليه.
وصدق الرؤيا من صدق الرائي.
المحبة في الله
قال معاذ بن جبل سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:”قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ”. رواه أحمد.
وروى أبو هُرَيْرَةَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا قَالَ لا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيه. رواه مسلم. والمؤمنون حبهم في الله ولله، والحب في الله من أوثق عرى الإيمان، والحب في الله فضل ونعمة وموجب للتواصي بالحق والصبر، وفي الحديث “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، رواه البخاري. ولذلك كان لمقام الحب في الله مرتبة جليلة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي”. رواه مسلم.
وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : قال الله عز وجل :” المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء ” .
ملازمة النوافل والعبادات
روى أبو هُرَيْرَةَ فقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل “.. وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ..” رواه البخاري.
قال ابن بطال رحمه الله: “وجه ذلك، أنه لا يحرك جارحة من جوارحه إلا في الله ولله، فجوارحه كلها تعمل بالحق، فمن كان كذلك، لم ترد له دعوة”.
حسن الخاتمة
كحال الصحابي الذي وقصته دابته في حجة الوداع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا” رواه البخاري.
فمات على ما كان عليه من الصلاح. ومن علامات حسن الخاتمة ما روى بُرَيْدَةَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:”الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ”[13]. رواه الترمذي والنسائي. ومنها أن يكونَ آخرُ كلامه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، كما روى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ” رواه أبو داود. ومنها أن يموت شهيدا في سبيل الله، وشهداء هذه الأمة كثر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» رواه مسلم. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:”مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ”. رواه أحمد والترمذي. وروى رَاشِدُ بْنُ حُبَيْشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :”أَتَعْلَمُونَ مَنْ الشَّهِيدُ مِنْ أُمَّتِي”؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ عُبَادَةُ: سَانِدُونِي، فَأَسْنَدُوهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الصَّابِرُ الْمُحْتَسِبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :”إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ، الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَهَادَةٌ، وَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ، وَالْغَرَقُ شَهَادَةٌ، وَالْبَطْنُ شَهَادَةٌ، وَالنُّفَسَاءُ يَجُرُّهَا وَلَدُهَا بِسُرَرِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْحَرْقُ وَالسَّيْلُ” رواه أحمد. أي الذي يغرق في ماء السيل. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أيضا صاحب الهدم، قال صلى الله عليه وسلم : “والذي يموت تحت الهدم شهيد”. متفق عليه. وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”السِّلُ شهادة” رواه ابن حبان.
المحبة النافعة والمحبة الضارة
المحبة النافعة ثلاثة أنواع كما لخصها ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان وهي: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يُعين على طاعة الله تعالى، واجتناب معصيته.
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها.
ولا شيء أحبُّ إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها ومعبودها، ووليُّها ومولاها، وربُّها ومدبِّرُها ورازقها، ومميتها ومحييها، فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن.[14]
وليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزكية أحلى ولا ألذُّ ولا أطيبُ ولا أسرُّ ولا أنهمُ من محبته والأنس به، والشوق إلى لقائه، والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة.[15]
والقلب لا يفلح، ولا يصلح، ولا يتنعَّم، ولا يبتهج، ولا يلتذُّ، ولا يطمئن، ولا يسكن إلا بعبادة ربِّه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له جميع ما يلتذُّ به من المخلوقات لم يطمئن إليها، ولم يسكن إليها؛ بل لا تزيده إلا فاقةً وقلقًا حتى يظفر بما خُلِق له، وهُيِّئ له، من كون الله وحده نهاية مراده، وغاية مطالبه[16].
تدبر القرآن والسنة
أينما وجدت آية تصف من يحبهم الله .. قف عندها وأقم نفسك على هديها ..
فالله يحب الصابرين والتوابين والمتطهرين والمتقين والمحسنين والمتوكلين والمقسطين والكثير من الآيات الجليلة لمن يحبهم الله جل جلاله لا تفوت متدبرا!
والله لا يحب الكافرين ولا الظالمين ولا المعتدين ولا الخائنين ولا الفرحين ولا المفسدين، ولا المختال الفخور ولا الخوان الأثيم ولا الخوان الكفور فلا يفوت مؤمنا ما يؤدي لبغض الله تعالى له والعياذ بالله. وفي الحديث والسيرة الكثير مما يدل على ما يوصل لمحبة الله أو بغضه والعياذ بالله، فليتحرى المسلم ذلك فيتمسك بما يجلب المحبة وينتهي تماما عما يجلب البغض .. والمسلم يتعلم دينه ويعلمه لمن حوله ..
وصايا الختام
أيها المسلم .. أيتها المسلمة ..
لتكن محبة الله سبحانه وطاعته جل جلاله مقدمة على كل محبوب .. يبذل فيها الغالي والنفيس ..
لتكن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته أولوية لا تقبل المساومة .. والمحبة توجب اتباع هديه وسنته صلى الله عليه وسلم والترفع عن البدع والضلالات ..
ليكن الاشتغال بطاعة الله تعالى وعبادته والتقرب إليه أهم أهدافنا في اليوم والليلة ..
لتكن كل أعمالنا لله وفي سبيل الله .. حتى استراحاتنا لله وفي سبيل الله .. في السكون والراحة في السراء والضراء .. في التعاملات والأزمات .. نذكر الله وندعو الله ونرجو رحمة الله ..
لنرابط على القرآن ونتدبره ونتذاكره .. قال ابن القيم: “وكذلك محبة كلام الله، فإنه من علامة حب الله، وإذا أردت أن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله، فانظر محبة القرآن من قلبك، والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرب بسماعهم، فإن من المعلوم أن من أحب محبوبًا كان كلامه وحديثه أحب شيء إليه، كما قيل:إن كنت تزعم حبي فلم هجرت كتابي؟ أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي”[17].
لنذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبنا .. لنتفكر في خلق السماوات والأرض .. قال إبراهيم بن علي:”من المحال أن تعرفه ثم لا تحبه، ومن المحال أن تحبه ثم لا تذكره، ومن المحال أن تذكره ثم لا يوجدك طعم ذكره، ومن المحال أن يوجدك طعم ذكره ثم لا يشغلك به عما سواه” [18].
ليكن خلقنا الرضا بقدر الله تعالى والتسليم لأمره ومشيئته .. قال ذو النون: “ثلاثة من أعلام المحبة: الرضا في المكروه، وحسن الظن به في المجهود، والتحسين لاختياره في المحذور”، وقال عبد الواحد بن زيد: “ما أحسب أن شيئًا من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا، ولا أعلم درجة أشرف ولا أرفع من الرضا، وهو رأس المحبة”.
لننكسر لله ونعظمه ونقدره حق قدره .. قال ابن القيم رحمه الله: “فالرب تبارك وتعالى يريد من عبده الاعتراف والانكسار بين يديه والخضوع والذلة له والعزم على مرضاته”.[19]
ليكن من دعائنا دبر كل صلاة قبل السلام .. اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ..
اللهم أعنا على بلوغ منازل المحبين لك .. الذين تحبهم ويحبونك.
لنحب ما يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. في القرآن والسنة كل ما فيه دليل على المحبة، قال بشر بن السري: “ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك”. لنكن أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين .. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة من الآية:54). لنجاهد في سبيل الله كما يحب ويرضى .. نقوم بأمر الدين بالمال والنفس والكلمة ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ (المائدة من الآية:54)، صفا كالبنيان المرصوص.
لنحب في الله ونوالي المؤمنين والمؤمنات ونبغض في الله ونتبرأ من المشركين والمشركات ..
و”أعمالُ القَلْبِ الأربعةُ التي لا تُنالُ وَلايةُ اللهِ إلَّا بها، ولا يَجِدُ أحَدٌ طَعمَ الإيمانِ إلَّا بها، وهي: الحُبُّ في اللهِ، والبُغضُ في اللهِ، والوَلاءُ في اللهِ، والعَداءُ في اللهِ- لا تُنالُ وَلايةُ اللهِ إلَّا بها، فلو صَلَّى الإنسانُ وصام ووالى أعداءَ اللهِ؛ فإنَّه لا يَنالُه وَلايةُ اللهِ”.[20]
وهنا قاعدة مهمة .. قال ابن تيمية:” والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه؛ فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة} فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم. فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه. وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط” .[21]اهـ.
كلما ازددنا عبودية لله .. ازدننا محبة لله .. كلما حفظنا التوحيد قولا وعملا .. حفظنا محبة الله ..
ما هي الكتب التي يُنصح بها عن المحبة ..
القرآن هو أول ما يجب الوقوف عنده وتدبره وملازمته .. فهو بوابة الفتوحات كلها ..
بعد ذلك .. قراءة الأحاديث والسيرة ففيها التطبيق العملي لحب الله تعالى .. واتباع سبيل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ..
ولعل من أفضل من كتب في المحبة مما عرفت .. ابن القيم وابن تيمية رحمهما الله ..
وأنصح بالقراءة في هذا الباب كتاب قاعدة في المحبة لابن تيمية رحمه الله وكتاب ابن القيم، “روضة المحبِّين ونزهة المشتاقين”، حيث خصصه للحديث عن “المحبة”، ولكنه ليس كتابه الوحيد الذي تحدث فيه عن المحبة، بل أغلب كتابات ابن القيم تشمل المحبة .. ومن ذلك .. كتبه التي أنصح بها بشدة: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان ومدارج السالكين في منازل السائرين والوابل الصيب ورافع الكلم الطيب وطريق الهجرتين وباب السعادتين والداء والدواء، وبدائع الفوائد والفوائد والروح وزاد المعاد في هدي خير العباد. وكتاب محبة الله تعالى عند الإمامين الجليلين ابن تيمية الحراني وابن قيم الجوزية لمؤلفه لعمر أحمد الراوي. وكتاب طب القلوب عند الإمامين ابن تيمية الحراني وابن قيم الجوزية للمؤلف نفسه.
نسأل الله جلّ في علاه محبته، اللهم حببنا إليك وارزقنا حبك.
اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إليّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد. اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت في قوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك.
[13] عرق الجبين: قيل: هو تعبير عن شدة الموت حتى يعرق جبينه لتمحيص ذنوبه، وقيل: هو علامة للخير عند الموت، وقيل هو كناية عن كدّ المؤمن في طلبه للرزق الحلال، وقيل: يعرق جبينه حياءً بما يأتيه من البشرى عند وفاته، والجبين: جانب الجبهة.
بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.