لا تعتقد أن الخروج من مرحلة الهيمنة الغربية التي قبع تحت وطأتها المسلمون عقودًا من الزمن سيكون بلا ثمن وبلا ضريبة ثقيلة جدًا.
لا تتوقع أن يكون خروجا سلسلا لا نتكبد فيه آثار الجاهلية التي رسخها دعاة الضلالة طويلا لإقصاء العقيدة وتهميش الدين من حياة المسلمين.
فما نشاهده اليوم من تخلف عقدي يتجلى بوضوح عند كل حادثة بين الناس ما هو إلا حصاد عقود من الإنصات لدعاة مدلسين مطففين استمر على أكتافهم الاستضعاف طويلا منذ الاحتلال الغربي لديار المسلمين إلى يومنا هذا.
فكمّ الشبهات والانحرافات التي تم حقن الجماهير بها خلال هذه الفترة كان له الأثر الكبير في هدم العقيدة وتهميش الدين وتشكيل العقول بما يخدم خطط وأهداف الهيمنة.
جعلوا من الإسلام دينا محدودا في مساحة البيت والأسرة والتعاملات والمسجد، ولم يتجاوزوا هذا الحد أبدا، فأصبح أكبر إنجازات المسلم إماطة الأذى عن الطريق، لكن أن يحكم بشريعة الله فهذه لم تخطر على باله لأنه بُرمج على أن الإسلام لا يتعدى دوره تنظيم حياة اجتماعية وأسرية. وتم إقصاؤه كنظام حكم. وفي نفس الوقت فتحوا الباب واسعا للآلة الإعلامية الغربية ولم يبالوا بتبعات الغزو الفكري الغربي في مجتمعات ضعيفة التحصين عقديا ودينيا.
فتجد المسلم يصلي ويصوم وينفق بسخاء ولكنه يمجد الديمقراطية وأنظمة الغرب الوضعية وينافح عنها على أنها أولوية للمسلم! ولم يدر أنها الحرب على دين الله والهدم لعقيدة الإسلام، ثم كيف توقظه من غفلته حين يجد ألف منبر وقناة “تؤسلم” له الأحكام الوضعية وتزين له أنظمة الحكم المستوردة وتشغله بإماطة الأذى عن الطريق!
ثم أين وصل بنا الحال بعد ذلك؟ هل تركوا الدين في هذا الحيّز الضيق المحدود من حياة المسلمين؟! لم يفعلوا، بل أصبحت القوانين الوضعية والمنظومات الفاسدة تفرض داخل الأسرة والبيت والمجتمع وأصبحت حربا على الفطرة والدين وأصبحت وسيلة لاضطهاد المسلمين في داخل منازلهم! .
ومع أنها قوانين تدفعها منظومات ومؤسسات شعارها الحرية للأديان إلا أنها في نفس الوقت تفرض قوانينها الجائرة المحاربة لحرية الإسلام في إدارة الأسرة والمجتمع فضلا عن الأمة. وتستخدم لذلك كافة الوسائل من تضليل وابتزاز وقوة ناعمة وغاشمة، فكان احتلالا وحشيا بثياب الحرية!
نازلة لم تعرفها الأمة من قبل
وهذا أمر لم يعرفه المسلمون قبل الاحتلال الغربي، ولم يكونوا ليقبلوا به، فجميع مطالب المسلمين في الحكم لم تكن تطرح فكرة إلا فكرة الدولة الإسلامية، ولم يكن هناك فكرة أخرى يمكنها أن تناجزها أو تنافسها أو أن تطرح كمجرد خيار أو على سبيل المثال، ولذلك استمر حال المسلمين في سيادة وتمكين وغلبة على أعدائهم من دولة إلى دولة، دستورها الإسلام وحكمها الإسلام ولم يكن هناك فكرة غير الإسلام تخطر على بال أحد حتى في أحلك الظروف والنكبات.
لكن حقبة الاحتلال الغربي استهدفت العقيدة وزرعت الانهزامية في قلوب الشعوب المسلمة فأضعفتها وعملت طويلا على هدم أسباب وعوامل الانبعاث من جديد لهؤلاء المسلمين الذين سادوا العالم في القرون الماضية بفضل الإسلام.
لقد عمل الاحتلال بهدوء وببطئ لكن نتائجه كانت كبيرة التأثير. حين تمكن من تحييد الإسلام من مركز حياتنا وجعله في الهامش، وبدل أن نعالج هذا الضعف الذي أصابنا لبعدنا عن الإسلام خرج علينا من يتماهى معه ويتعايش معه ويهون من مسألته، تماما كما خرج علينا أيام الاحتلال الغربي من يشرعن هذا الاحتلال ويمجده ويدعو له.
ومن ذلك تمادي من يحللون ما حرم الله بحجة المصلحة والتعايش مع غلبة الباطل، ولم نر إلى اللحظة أي أثر للمصلحة غير تآكل الإسلام[1] وتبديله وبيعه بثمن بخس! حتى أضحى هذا المحرم شرعا هو الأصل وهو المطلوب وأصبحت فتوى الاضطرار والاستثناء هي الفرض وهي الواجب بغض النظر عن حد الضرورة وشروط الاستثناء، وأصبحت الدعوة للحكم بشريعة الله والمطالبة بإعادة الإسلام لحياة المسلمين حكما ومنهجا دعوات منتقدة توصف بـ”الغوغاء” و”الجهل المركب” وغيره من أوصاف يطلقها مسلمون! تكشف حجم الهوة التي أصبح يعيشها المسلم بين دينه وواقعه، وتكشف درجة تماهي الناس مع الباطل حتى أصبحت دعوات الاستقامة كما أمر الله تصنف في باب “الغلو”! مع أن ختمة للقرآن كفيلة بهدم كل شبهة وتعالم في هذا الباب.
ولذلك صنفان من الناس أتساءل كيف سيقابلون الله جل جلاله؟!
– من أحل حراما ولم يزد الأمة إلا دمارا!
– ومن اعتلى المنابر يحدث بالأحاديث المنكرة والكاذبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشرت انتشار النار في الهشيم! اللهم سلم.
تغيير الذهنية الانهزامية
وقد هيمنت هذه الذهنية من التفكير بتهميش الإسلام طيلة عقود من الفشل، ولذلك فإن تغييرها هو أول خطوة لتحقيق التغيير الجذري ونهضة الأمة الواعدة. وإلا فدائرة من التيه والعبث وفاقد الشيء لا يعطيه.
وحالنا اليوم ونحن نسعى للخروج من نفق الحكم الجبري المظلم نحو خلافة على منهج النبوة الموعود، لخصه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله حيث قال: “…فنرى أكثر الأمم المنتسبة للإسلام يعتقدون صحة القرآن ويشهدون بذلك ويعرفونه، ويزعمون القيام بأمره -ثم هم يخالفونه في التشريع، في شئونهم المالية والجنائية والخلقية، ولا يستحون أن يعلنوا أن تشريعه وتشريع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته لا يوافق العصر!
ويجعلون من حقهم أن يشرعوا ما شاؤا، وافق الكتاب والسنة أم خالفه! ويصطفون قوانين أوروبة الوثنية الملحدة، ويشربونها في قلوبهم، يزعمونها أهدى وأنفع للناس مما أنزل إليهم من ربهم. ولا يتعظون بما أنذرهم به ربهم من المثل بالأمم قبلهم”[2].
ولن ننال فضل وعد الله الحق إلا بعودة لما كان عليه الجيل المتفرد، على منهاج النبوة الخالص وذلك سبيل المؤمنين.
استدراك العقيدة واجب المرحلة
لابد أن ندرك أن أكبر خسائرنا خلال مرحلة ما بعد الاحتلال الغربي هي خسارة مكانة العقيدة في قلوبنا وموقعها في حياتنا، هي خسارة الإسلام كأولى أولوياتنا للحكم والتعامل والعمل به وله.
لا بد أن ندرك أن أكثر ما ثبّت أركان الغزو الفكري الغربي هو الانهزامية وسلطة الثقافة الغالبة وأن صياغة نفوس عزيزة مستعلية بإيمانها ومقدّرة لعظمة ميراثها الديني والحضاري، هي من أسباب انبعاث الجد وعلو الهمة، وبالتالي انبعاث الأمة رائدة من جديد.
لابد أن ندرك أن أكثر ما نال منا من هذا العيش البعيد عن الفهم الصحيح للإسلام هو الذلة وتسلط أراذل الخلق على أمة الإسلام ولو أننا أقبلنا على هذا الدين كاملا بلا اجتزاء أو انتقاص، لكان حالنا عظيما وفتوحاتنا تتوالى.
ولن نحقق ذلك بدون أن نتخلص من الذهنية التي تشكلت منذ الاحتلال الغربي وتعايشت مع ضعفها وعرفت بالانهزامية والكسل والتسويف والسلبية واللجوء للسخرية لتخدير الضمائر والهمم واستعظام المهام الشاقة وحب الحمد بما لم تفعل والتملص من المسؤوليات والنقد الهدام والتطفيف والبخس والغمط وغيره من مظاهر تستحق مقالة كاملة لرصدها وتبيان مصاب الأمة في أبنائها.
الحل في القرآن
ولكن الله لم يتركنا هملا بل قدم لنا الحلول العظيمة في كتابه العظيم.
قال تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة: 66).
ولا سبيل لعيش كريم إلا بالعودة لهذا الدين العظيم، فهو الحصانة وهو الرفعة وهو كل القوة.
قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96).
لذلك فإن كل دعوة لا تعيد الإسلام حاكما وآمرا وناهيا في حياة المسلمين، باعتزاز لا يخالجه خجل واستعلاء على كل جاهلية، هي دعوة للذلة والضعف والفشل، وفي الحديث “الإسلام يعلو ولا يُعلى” (صحيح الجامع الصغير).
وكل دعوة لا تعيد إحياء معاني الدين الجليلة ومفاهيمه الأصيلة وتعلم الناس الحق من الباطل وتبين لهم الأصول التي قام عليها هذا الدين كما جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونقلها لنا صحابته الكرام رضي الله عنهم، فإنما هي عامل آخر من عوامل استمرار الهيمنة والضعف.
ولذلك أشدد على أن مواجهة التمرد على الفطرة الذي يعيشه العالم اليوم لن يكون إلا بتمرد على جاهلية العصر. أي الاستقامة كما أمر الله تعالى، وهو الحصانة والقوة كلها التي ستهزم جميع الحملات الهدامة للبشرية والمفسدة في الأرض، لمن تدبر. خاصة وقد فضح الله لنا فساد الغرب وانحطاطه الذي لا قاع له، وأصبح واضحا للجميع مدى الظلم الذي أصاب البشرية على يديه.
ومن كان الله مولاه لا يُهزم!
وختاما، لنبني ذهنية جديدة قوية معتزة بدينها متحصنة بإيمانها، معدة لتحمل أعباء مرحلة النهوض، منهجها في العمل: لن تنال من نصر الله لك إلا بقدر نصرك للإسلام.
ثم لا نُبالي بعد ذلك أحققنا التمكين والنصر أم نلنا مرتبة الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. فكلاهما الفتح.
[1] تآكله في أعين ومفاهيم الناس وليس فيه كدين، فهو لا يمسه شيء إنما نظرة الناس له واعتقادهم فيه يتلاشى تدريجيا،
[2] حكم الجاهلية، ص68