توفي الكثير من الأطفال في الديار الثلاث، غزة وسوريا والسودان في الأيام الأخيرة، وهي آجال مكتوبة إذا حان موعد نهايتها، فلا يوجد قوة على الأرض يمكنها منع الموت.
﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾[ سورة آل عمران: 145]
وهو ابتلاء عرفه الأنبياء وأحب الخلق لله تعالى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد ودع أبناءه وبناته واحدا تلو الآخر ولم تبق سوى فاطمة رضي االله عنها كان بلاؤها بأن شهدت وفاة أبيها فلحقت به بعد مدة قصيرة وهي تذوب!
فيا من ابتليتم بفقدان فلذة الكبد وقرة العين أعظموا الاحتساب وقولوا بقلب موقن: “إنا لله وإنا اليه راجعون”، نسأل الله تعالى أن يعظم أجركم ويحسن عزاءكم، ويعوضكم خيرا كثيرا.
بشارة تستوجب التهنئة
وفي الواقع نحن في مقام تعزية وتهنئة في آن واحد، ذلك أن البشارة للآباء والأمهات الذين فقدوا أحبتهم الصغار عظيمة! كما بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن فقد حبيبه من أهل الدنيا وحمد الله واسترجع واحتسبه عند الله تعالى بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة وسماه بيت الحمد، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة”. رواه البخاري وغيره.
وقال صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد”. رواه الترمذي وغيره.
وورد في الصحيحين أجر خاص لمن توفي له أكثر من طفل فصبر واحتسب فعن عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا فَوَعَظَهُنَّ وَقَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ كَانُوا حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ ” أخرجه البخاري ومسلم.
وفي صحيح البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” مَا مِنْ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ”.
وهذه بشرى عظيمة بدخول الجنة والنجاة من النار لمن ابتلي بفقد ابنين وأكثر وصبر واحتسب.
قال الله تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)
وإن ترديد “إنا لله وإنا إليه راجعون” لشفاء لصدور المكلومين، لما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا قَالَتْ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “.
فالهدي في مثل هذا المصاب الذي جاء في وقت تداعي الأمم المحاربة لأمة الإسلام والوهن والخذلان، عظيم بقدر الإخلاص والصبر والاحتساب والتزام السنة في المصائب. والأجر على قدر المشقة.
وقال سبحانه وجل شأنه ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [ الزمر: 10]
تأمل جمال “بغير حساب”!
جاء في تفسير البغوي للآية الجليلة:” قال علي – رضي الله عنه – : كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنا إلا الصابرون، فإنه يحثى لهم حثيا.
ويروى: ” يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب ، قال الله تعالى : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل “. انتهى من تفسير البغوي.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : (إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ) رواه الترمذي وابن ماجه.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) رواه الترمذي في “صحيح الترمذي” .
قدوتنا نبينا صلى الله عليه وسلم
عاش النبي ألم فقد الابن والابنة، وكان أول من مات من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم هو القاسم وهو أكبر بنيه وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البر في الاستيعاب: (4/1818): وقال الزبير: ولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم وهو أكبر ولده .. ثم مات القاسم بمكة، وهو أول ميت مات من ولده، ثم مات عبد الله أيضا بمكة. اهـ.
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة بنين توفوا جميعا قبله، وهم القاسم وبه كان يُكَّنَّي، وُلِدَ قبل النبوة، وتوفي وهو ابن سنتين، وعبد الله وسُمي الطيب والطاهر، لأنه وُلِد بعد النبوة، وإبراهيم وُلد بالمدينة سنة ثمان، ومات بها سنة عشر وهو ابن سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر.
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع بنات هن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وقد توفيت رقية يوم بدر في رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وتوفيت زينب سنة 8 للهجرة، وأما أم كلثوم ففي شعبان سنة 9 من الهجرة.
وكل أبناء النبي صلى الله عليه وسلم توفوا قبله إلا فاطمة فإنها عاشت بعده ستة أشهر على الأصح والأشهر.
رحمة ويقين
يصف أنس بن مالك رضي الله عنه حال وموقف النبي صلى الله عليه سلم عند لحظة موت ابنه إبراهيم فيقول: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى سيف القَيْن (الحداد)، وكان ظِئْرًا لإبراهيم (أباً له من الرضاعة)، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) رواه البخاري.
فلا حرج في الحزن على فقد الأبناء ودمع العين دون أن ينافي الرضى بالقضاء والقدر. دون تسخط أو فعل بدعة توجب حرمان فضل الصبر.
ورغم حزن النبي صلى الله عليه وسلم على وفاة ابنه إلا أنه لم يقل إلا ما يرضي ربه تعالى وفي ذلك مثالاً وقدوة عملية في الصبر والرضا، والأدب مع الله عز وجل.
والصبر والاحتساب واليقين يهون كل الآلام في القلب.
شفاعة الأطفال
ثم لا شيء يضيع عند الله جل جلاله فكل ابتلاء وفقد يصبر عليه المسلمون ويحتسبونه يقابله منحة من الله جل جلاله وهذه امتحانات ارتقاء وظفر.
والأطفال يشفعون لآبائهم يوم القيامة فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة: إنه قد مات لي ابنان، فما أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم، صغارهم دعاميص الجنة، يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فياخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا، فلا يتناهى أو قال فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة.
فكل من فقد صغيره ليتخيل الموقف العظيم! ابنك سبقك للجنة، إنه يتنعم في نعيم خير له من الدنيا، إنه مستريح من كدر كثير كان حوله وينتظره!
فهذه خير خاتمة للأطفال الذين يدخلون الجنة بخير حساب ويحملون المنح لآبائهم وأمهاتهم.
نسأل الله أن يلهمكم الصبر على مصيبتكم وأن يخلفك لكم خيرا ويرفعكم درجات ما كنتم لتصلوها لولا الصبر على بلاء فقد الأنفس العزيزة في زمن غربة الدين.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [ آل عمران: 185]
الصورة في المقال: على إثر سقوط باص مدرسي في داخله 25 طفل في رحلة مدرسية في نهر العاصي في ريف إدلب، حيث عملت فرق الدفاع المدني على الإنقاذ.
وصل عدد الوفيات في مشفى الرحمة إلى 7 أطفال وامرأة، والباص يعود إلى مدرسة للأيتام.
جزاك الله خيرا وفتح عليكِ
بوركت جهودكم، مقالة تجبر الخاطر
رضي الله عنك.