كان المسلمون في حقبة ما قبل الاحتلال الغربي يعتمدون نظاما دراسيا ينطلق من تعليم العلوم الشرعية ابتداء ثم العلوم الحياتية، فيتكون لدى الطالب رصيدا عقديا وخلقيا كافيا للانطلاق في بحر العلوم الأخرى. فكانت إنجازاتهم دولا إسلامية مستقلة وحضارة لا تزال آثارها تشهد لتفوقها الخلقي والعلمي.
بعد الاحتلال،تغير هذا النظام وأصبح التركيز على العلوم الحياتية بشكل أساسي وأهملت العلوم الإسلامية وهمشت، فخرج لدينا جيل هش العقيدة والأخلاق، شديد التعلق بالعلوم الحياتية، يعيش لها ويموت لأجلها، فأضاع المسلمون البوصلة وقبعوا تحت وطأة الهيمنة، حين تخلوا عن أهم سر من أسرار تفردهم وقوتهم.
ولعل أكثر ما أضر بالجيل القابع تحت الهيمنة هو فقدان القيمة، فالناس لا تعرف قيمة دينها، لذلك تنهزم للغرب والشرق الكافرين، ولا تستطيع التفكير خارج إطار هذه الدائرة أو هذا السجن، على عكس أسلافنا، أخذوا من الحضارات الأخرى ما يفيدهم ولكن بحفظ الاستعلاء بالإيمان وهذبوا العلوم وأقاموها على الحق.
للأسف يعتقد الكثير من شباب المسلمين اليوم أن الدين الإسلامي مجرد عبادات وعلاقة روحية وصلاح فرد وسعي للجنة بأعماله الصالحة وهذه نظرة قاصرة جدا لعظمة هذا الدين، ومن يتدبر كيف قامت خلافة المسلمين الأولى وكيف أقيمت الدول الإسلامية الكبرى بعدها يدرك أن الإسلام قدم الأرضية الصلبة لذلك.
لقد كفلت عقيدة الاستعلاء بالإيمان لعلماء المسلمين صفة “التفرد” و”السبق” التي جعلت من علومهم ونتاجهم الفكري والعملي، مراجع علمية اعتمد عليها الغرب وبنى عليها نتاجه العلمي، ولكن عقودا من الهيمنة، كان لها الأثر العظيم في تشكيل ذهنية محدودة الطموح وضعيفة الانتاجية، اتكالية استهلاكية!
ولذلك إحياء روح البحث وشغف التعلم، بعد ترسيخ عقيدة الاستعلاء بالإيمان، خطوة مصيرية لتحقيق أي نهضة إسلامية مرجوة، وأول أهدافها ستكون كسر أغلال الانهزامية للغرب، والاستقلالية عنه والتفرد والريادة من جديد. وهذه الحقيقة يدركها كل من تعلم في مدارس الغرب وقارنها بما يجري في مدارسنا.
لا تتوقع من نظام تعليمي أقامه المحتل وراقبه نظام دولي أن يسمح بصعود إسلامي واعد فهذا نظام غير ملائم لنهضة إسلامية قوية، بل هو أكبر نقاط ضعفنا، أضف لذلك حجم الفتن المحيطة بالمسلمين من إعلام مفتوح وأفكار غربية منهمرة، غير منقحة ولا مدروسة، يتم تداول كل ذلك في وسط من حرية نشر الجهل والتعالم.
لقد كشفت لنا مواقع التواصل عن الكثير من العيوب ونقاط الضعف ولا أزال أرى أخطرها على الإطلاق الجهل بدين الله تعالى والجهل بقيمة هذا الدين العظيم، ولذلك أحاول دائما أن أعيد المركزية لهذا الدين في كل إصلاح وكل خطاب وكل محاولة فهم لما يجري حتى في التعامل مع معطيات غربية وحقائق علمية.
من يتأمل تعامل النبي ﷺ في معركة بدر مع الأسرى، بالمن والفداء، وتعليم الأميين الكتابة، والحزم مع المجرمين، يدرك كيف كان لذلك الأثر الكبير في إقبال العرب على الإسلام، إن حقيقة الدعاوى يعكسها التعامل بها، ولذلك أيضا كان لتعاملات التجار المسلمين الأثر الكبير في اعتناق الشعوب الأخرى الإسلام.
تعامل النبي ﷺ انطلق من عقيدة التوحيد والإيمان، ومن هذا المنطلق جاءت كل تعاملات الصحابة منضبطة، بحسن الاستجابة لله تعالى ولنبيه ﷺ فكان لهذه القاعدة العقدية أثرها في تعاملات الصحابة الذين خرجوا من جاهلية! لقد انتظم المسلمون بفضل العقيدة انتظاما مهيبا وانتظمت علاقاتهم بدون فلسفات!
لقد كشف ابن القيم في دراساته النفسية الإسلامية، وأحب كثيرا أن أميزها بالإسلامية لأنها متفردة في أطروحاتها وفي قواعدها وفي غاياتها ومقاصدها ولذلك كان لها صداها في المدارس النفسية الغربية، كشف ابن القيم عن أثر الإيمان في أداء النفس البشرية وهي نقطة فارقة في العلوم النفسية والسلوكية.
وخلص إلى أن أداء النفس البشرية يعتمد على قواعد ثلاث متصلة ببعضها اتصالا وثيقا، (معرفة الله جل جلاله، معرفة النفس البشرية، ومعرفة المحيط) هذه المعرفة الثلاثية هرم لكل الأداء البشري، ومن بلغ فيها نصاب العلم اللازم، كان أداؤه مباركا، كما كان أداء من سبق مباركا، وهذا علم يتعلمه الغرب منا.
الغرب يهمش الجانب الروحي ويركز كثيرا على الجانب المادي حتى في خلاصاته النفسية، على عكس الإسلام، فهو يبدأ بإصلاح القلب، بإصلاح علاقة العبد والأمة بربهما تعالى، ثم حدثني عن الاستجابة وبركة الإيمان وأثر ذلك في النفوس، الإسلام يصيغ المرء صياغة عظيمة يخرجه من الظلمات إلى النور فتأمل!
فمن أراد فهم هذا الإنسان وإصلاح هذا الإنسان والتعامل معه لا يجب أبدا وإطلاقا إخراجه من دائرة العبودية لله تعالى والتركيز على خصائص نفسية متغيرة بدون إيمان، مضطربة بدون تهذيب الإسلام، غير مستقرة بتأثيرات المحيط وتراكمات التربية والجهل. من هنا نرى الفرق بين العلم السلوكي الإسلامي وبين الغربي.
التفسيرات الغربية لسلوك الإنسان تعتمد على دراسة العينات البشرية والإحصاءات والمقارنات والتحليلات وغيره، بينما التفسيرات الإسلامية لسلوك الإنسان تعتمد بداية على موقع قلبه في مراتب الإيمان التي تتحكم في كل ما يصدر منه بعد ذلك، لقد حول الإسلام رجالا ونساء من الجاهلية إلى جيل متفرد عظيم.
من أراد أن يصلح العلاقة بين الرجال والنساء فيصلحها بتصحيح عقيدة الإيمان في نفوسهم، بترسيخ الاستجابة لله تعالى بدون لجلجلة أو اضطراب، ثم يرى كيف تضبط الاستقامة الأداء، فالنفس البشرية تتحول إلى نفس مجتهدة تصلح وتثابر وتتقي! بينما الأرقام والخلاصات العلمية لن تغير شيئا في الأدء بدون توحيد.
هناك بعد آخر لا يصله العلم التجريبي ولا يدركه، إنه بعد الإيمان، إنه بعد إرادة الله تعالى ومشيئته، فالله حكيم خبير بصير بعباده، جعل الطيبين للطيبات والخبيثين للخبيثات وجعل المودة والرحمة أصلا والعشرة بالمعروف واجبا، وجعل حقوق الرجال والنساء واضحة برضا، وإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أمرا.
كما وجد الاختلاف في طبائع النساء وجد الاختلاف في طبائع الرجال، ومخطئ من قاس الرجال كلهم أو النساء كلهن على مقياس واحد أو نظريات مفترضة، فالنفس البشرية تتغير وتتأثر، بزيادة الإيمان ونقصانه أكثر من أي تغيرات جسدية أخرى، لذلك فالحل في إصلاح ما بين الرجال والنساء هو الحل الإسلامي لا الغربي القاصر.
فالمرأة التي تتعامل معها على أنها مجرد كائن حي يتعامل وفق تغيرات جسدية فيه، تختلف تماما عن المرأة التي تتعامل معها على أنها أمة لله تعالى مكلفة محاسبة! شتان بين المنهجيتين في التعامل والعلاج، فالأولى تصنع الظلم والطغيان والثانية تصنع العدل والتقوى، الأولى حياة صراع والثانية حياة انسجام.
الملاحظ في المنغمسين بقوة في قراءة الخلاصات عن طبيعة المرأة البيولوجية والنفسية، أنهم مع الوقت يكونون شعور كراهية للمرأة وتحقير بشكل غير مباشر، فهم لا ينظرون لها إلا بهذه الخلاصات البشرية القاصرة والله جل جلاله رفع مقام إماء الله وكرمهن بحسب تقواهن لا بحسب طبيعة خلقهن، فهذا خلق الله.
لذلك تجد هذا النوع من الرجال يتخبط، ويتعلق بشماعة “خلقة المرأة” عند كل فشل في فهم هذه المرأة، ومنهم من يتخلص من كل عبء تفكير ومحاولة عدل، بقول هذه “امرأة”، لكننا لو التفتنا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، لوجدنا أمامنا مدرسة عظيمة تم إهمالها وتهميشها على حساب قصاصات بشرية منفصلة عن عقيدة التوحيد.
من هنا وجب التحذير من انغماس”فتنة” يعمى معه البصر وتعمى معه البصيرة، لكل ضعيف معرفة بعقيدته ودينه وسيرة نبيه وصحابته وميراث الإسلام العظيم. الذي نحن محاسبون ومطالبون بالاقتداء به وهو الذي سيسألنا الله عنه لا عن خلاصات بشرية قاصرة! ومن تأمل في أداء المتعلقين بهذه الخلاصات يدرك الفرق.
وننتهي في كل قضية من قضايا زماننا إلى حقيقة أن عزتنا وخلاصنا وقوتنا كلها في التمسك بدين الله بتعظيم لا يشوبه شك! بتسليم لا يتلطخ بسوء فهم، بل بتوكل عظيم على الله تعالى لننعم ببركات معية الله وتوفيقه وهذه حقائق لن ينقلها لك علم في هذه الدنيا إلا علم التوحيد والإيمان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:”فإنَّه مَن يَعِشْ منكم فسيَرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ”. حديث صحيح.
إن كثرة التنطع والتعمق والتكلف، مذهبة للبركة وجالبة للخذلان، والحمد لله الذي جعل لنا هديا سماويا لا يشقى من اتبعه وإن كان قليل حظ بعلوم الدنيا، وكم من صالح تقي لا يحمل علما دنيويا هو أسعد وأنجح من ذلك المتكلف الذي يحاضر بالخلاصات ولا حظ له في التقوى وخشية الله فيعيش عيشة المحروم التائه.
من هنا نرى أهمية تغيير النظام التعليمي تماما والتحول إلى المنهجية التي كان عليها سلفنا، لتكن البداية المهيبة من القرآن والسنة، لتبدأ صياغة الجيل من معرفة الله تعالى، وديننا العظيم وميراثنا المهيب، ثم ليبحر بأمان الله المسلم لا يخشى غرقا ولا تيها ولا عبثا، يعيش باستعلاء فيبصر بنور الله.
حصنوا الأبناء والبنات بقوة القلوب والروح، وأطلقوهم بعد ذلك باطمئنان، ليرجعوا لكم بالغنائم، لا ترسلوهم في بحر متلاطم الأمواج ببضاعة مزجاة ثم تتفاجأون بكمّ الفتن التي يحملونها لكم، وكمّ الفشل والضياع والظلم والبغي وإن حازوا أعلى الشهادات، صيغوهم على الإسلام وانعموا ببركات معية الله تعالى وتوفيقه.
ما فائدة أن يكون ابنك طبيبا بارعا وهو لا يخشى الله!؟ ما فائدة أن تكون ابنتك عالمة في علوم الدنيا وهي لا تطيع الله!؟ ولو حاز كل منهما علوم الدنيا، ما لم يطيعا الله ورسوله فلا تنتظر لحياتهما الاستقرار، ولنا في الغرب أمثلة كثيرة، فشل ذريع في الأسرة وتخبط قادهم للبهيمية على قوة معرفتهم العلمية!
وفي الختام إنما الحياة امتحانات للتقوى، والأقدار ماضية برزق أو امتحان، فتعامل مع الأقدار بالتقوى، وإياك والبغي والطغيان قال تعالى (فاستَقِم كَما أُمرتَ وَمَن تَاب مَعَكَ وَلَا تَطغَوا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعمَلُون بَصِيرٌ) هذه أقصر طريق للفلاح والسعادة ومن أراد سبلا أخرى ففشل وشقاء.