بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.
في مثل هذا اليوم الموافق للسابع عشر من رمضان سنة 2هـ شهدت السماء والأرض على ملحمة من ملاحم التاريخ الخالدة، وأول معركة بين الحق والباطل، فاصلة، كانت انعطافة جادة في الصعود الإسلامي في جزيرة العرب.
فبعد معركة بالحجج والأدلة والبراهين، أعجزت كفار قريش والمشركين، حان وقت إقامة بنيان الإسلام في الإرض بقوة الحديد وروح الفداء.
فباللسان والسنان، بالدعوة والجهاد، قامت دولة الإسلام الأولى قوية وتوسعت حتى بلغت أنوارها زوايا الأرض.
وهذه سنة الله في الأرض، أن القوة تحمي الحق، والحق بلا قوة مستباح ومستضعف، ومهدد بالاختفاء!
كانت هذه المرحلة مهيأة لمثل هذا التطور، فبعد سنين الاستضعاف في مكة جاءت الهجرة كانفراجة وقفزة إلى مرحلة التمكين للصالحين، ولذلك بدأت الآيات الحاثة على الجهاد تتنزل تباعًا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستمرت حتى انقطاع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم. لقد أذن الله لنبيه بالقتال.
اجتمعت قلوب المهاجرين والأنصار في المدينة على دين الله تعالى، وعلى قيادة النبي صلى الله عليه وسلم، باعتزاز واستعلاء بالإيمان لا يناجزه استعلاء، بوضوح رؤية وعزيمة لا يلطخها تشويش ولا اضطراب. ومع اجتماع أسباب الصعود الإسلامي، كان هناك أعداء يحيطون بهذا الكيان الواعد، في الجوار من قريش، وفي المدينة من قبائل اليهود القاطنة فيها وكذا الأعراب المحيطين بالمدينة؛ فكان لا بد من استراتيجية تضمن أمن المدينة وتحميها من أي هجوم مباغت أو غادر.
وبدأت هذه الاسترتيجية بتوفير حماية للنبي صلى الله عليه وسلم فكان صلى الله عليه وسلم لا يبيت إلا محروسًا، وكان الأنصار والمهاجرون لا يفارقون أسلحتهم.
وركزت هذه الاستراتيجية على مكامن القوة عند العدو، وكان الاقتصاد شريان الحياة لقريش، فكان استهدافه من الأهداف الذكية التي تتعطل بها قوة المشركين. وبدأت شبكات الرصد والاستطلاع ترصد تحركات قوافل قريش ذهابًا وإيابًا.
وتلك استجابة طبيعية لرسائل التهديد والوعيد التي كانت تصل المدينة من قريش، واستفزازاتهم على حدود المدينة. كما فعلت كتيبة بقيادة كرز بن جابر الفهري في مراعي المدينة حيث نهبت بعض مواشيها ورجعت أدراجها.
وجاء الإذن من الله تعالى بالقتال، قال جل جلاله: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39]،
وانطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهز السرايا ويبعثها إلى تخوم المدينة، لذلك نرصد في تاريخ السيرة بين يدي بدر غزوات وسرايا متعددة، كان الهدف منها في الأغلب اعتراض قوافل قريش وهو نوع من فرض السيادة في هذ الأرضي، وإرسال رسالة إلى قريش أن المسلمين مستعدون للمواجهة. ولم تكن قريش لتصدق تلك الرسالة بسبب غرورها وصلفها واعتقادها أنها صاحبة القول الفصل!
ولكن تحدي المسلمين وعزمهم كان غلابا، لقد وصلت بعض كتائب وسرايا هذا النشاط العسكري إلى حدود مكة، كسرية نخلة بقيادة عبد الله بن جحش رضي الله عنه التي قتلت من المشركين وأسرت وغنمت وعادت سالمة. فكان الفعل جد لا يقبل الهزل!
وكانت بداية مرحلة التدافع، فلا بد للإسلام أن يسود، ولا بد للكفر أن ينحسر. وإن لم يحكم الإسلام يُحكم وهذا مما لا يتوافق أبدًا مع عظمته وتفرده وجلال شأنه وسيادته.
لم تكن قريش تأخذ بعين الجد سرايا المسلمين الأولى، واستمرت في إرسال قوافلها، وكان الدور لقافلة من القوافل بقيادة أبي سفيان، والتي بلغ المسلمين خبرها، لكن ما أن خرجوا إليها وجدوها قد فاتتهم فرجعوا إلى المدينة، وحين وصلهم خبر عودتها من جديد، اجتمع النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته يشاورهم في الأمر.
المشورة والإعداد والصدق
عقد النبي -صلى الله عليه وسلم- مجلسًا للشورى مع صحابته الكرام ليستشيرهم في أمر الخروج لاعتراض عير أبي سفيان والذي قد يتطلب معركة، فكان أول المؤيدين بشدة أبو بكر -رضي الله عنه- وقام بعده عمر بن الخطاب والمقداد بن عمرو -رضي الله عنهما- يباركان الفكرة، ولا تزال كلمات المقداد بن عمرو شاهدة في التاريخ على ذلك التأييد بالمؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال المقداد رضي الله عنه:
وكان الصديق وعمر والمقداد من المهاجرين فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمع من الأنصار وهم الأكثرية في الجيش، وبيعة العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم، فقال صلى الله عليه وسلم بعد سماع كلام هؤلاء القادة الثلاثة : «أشيروا علي أيها الناس» وإنما يريد الأنصار، وفطن إلى ذلك قائد الأنصار، وحامل لوائهم سعد بن معاذ، فقال: “والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أجل»، قال سعد: فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوًّا غدًا إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، وفي رواية: أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك فو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك ثم قال: «سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم»قال الهيثمي في المجمع (رواه الطبراني وإسناده حسن) .
وهكذا بعد أن اجتمعت القلوب على أمر واحد، أمر النبي الصحابة رضي الله عنهم بالاستعداد، فاجتمع له صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا من المسلمين، وبدأ صلى الله عليه وسلم بخبرة القائد العسكري الفذ، بتنظيم الجيش، وإرسال العيون؛ لاستطلاع الأخبار، ثمّ توزيع المَهامّ على أصحابه.
فاستخلف ابنَ أم مكتوم على المدينة، وعلى الصلاة بداية، ثمّ أعاد أبا لبابة بن المنذر إلى المدينة، واستخلفه عليها عندما وصل إلى الروحاء.
وعَيّن مصعبَ بن عُمير قائدًا للواء المسلمين، وكانت راية اللواء بيضاء اللون.
وقسّم جيشَه إلى كتيبتَين: مهاجرين، وأنصار، وكلّف عليًّا بن أبي طالب بحمل راية المهاجرين، وسعدًا بن معاذ بحمل راية الأنصار.
وعَيّن الزبيرَ بن العوّام قائدًا لميمنة الجيش، والمقدادَ قائدًا لميسرته.
استعداد قريش
لم يكن كفار قريش بدون خبرة عسكرية فقد كانت لديهم أعينهم الاستخباراتية أيضا ولذلك حين علم قائد قافلة قريش، أبو سفيان، بخروج المسلمين أول مرة، سارع إلى تغيير مسار القافلة، وأرسل من ينذر قريش، فاستجابت له بإرسال جيش من نحو ألف مقاتل من المشركين مدججين بالأسلحة، منهم ستمئة يلبسون الدروع، أمّا البعير والخيل فكان معهم منها سبعمئة بعير، ومئة فرس، بالإضافة إلى القِيان معهم يُغنِّين بذَمّ المسلمين.
ومع أن الخلاف وقع بين زعماء قريش بداية إلا أنّ أبا جهل أصر على المسير إلى بدر على أن يقيموا هناك ثلاثة أيام يأكلون، ويشربون، ويُغنّون؛ حتى تسمع بهم قبائل العرب جميعها؛ كنوع من فرض السيطرة والهَيبة لقريش والاستفزاز للمسلمين.
أهمية الإعداد العسكري
رصد المسلمون خبر خروج جيش المشركين فعلموا أنها المواجهة، فسبقوا إلى أرض المعركة وأخذوا مواقعم بانتظار التقاء الجمعان. وهنا نلاحظ أهمية الإعداد العسكري في مثل هذه المواجهات ولعل الجهد الاستخباراتي الذي سبق يوم المعركة كان من أهم مراحلها، فهناك عيون تحرس، وجنود خفاء يرصدون الأعداء وهناك سرعة تبليغ ومنظومة أمنية وسرية لافتة، لقد كان المسلمون على قدر المسؤولية وعلى دراية بفنون المواجهة، والأجدر بحماية الحق الذي يحملون.
يوم الفرقان يوم التقى الجمعان
أشرقت الشمس في صبيحة يوم الاثنين لليوم السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة على أرض بدر، أرض دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، فتحولت من مجرد محطة لمرور القوافل المتجهة إلى الشام والعائدة إلى مكة المكرمة إلى أرض تحتضن الملحمة الأولى في تاريخ هذا الدين العظيم بين فئتين، فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، ملحمة لا تعرف لغة إلا لغة السيف والدماء..!
اجتمع المسلمون هنا خلف نبي الله صلى الله عليه وسلم والتحموا صفا واحدا كالبنيان المرصوص بعقيدة التوحيد الخالصة، لم تفرقهم حمية جاهلية ولا عصبية قبلية ولا قومية ولا غرض من أغراض الدنيا الفانية!
لقد اجتمعوا على الإيمان واليقين على الحق والعمل لمواجهة الكفر والباطل، ودحر قوى الشر في معركة فاصلة.
تلاشت جميع الروابط البشرية في هذه الساحة، ولم يبق إلا رابطة العقيدة الخالصة. فلم يكن صعبا أن يقاتل الأخ أخاه ولا الابن أباه ما دام رضي لنفسه الكفر والشرك وحارب دين الله ونبيه صلى الله عليه وسلم.
ولنا أن نتصور كيف كان استعداد الصحابة وقائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول معركة لهم أمام كفار قريش الذين تفننوا في أساليب تعذيبهم في مكة وفي حصارهم وأذيتهم والاعتداء عليهم فقط لأنهم يقولون ربنا الله!
كيف انعكست في لحظات مشاهد الاستضعاف في مكة والخشية من بطش قريش إلى صفوف معدة أحسن إعداد بالروح وبالسلاح، لتواجه خصما لم يعرف الرحمة! سبحان مبدل الأحوال! وسبحان من يغير حال الضعف إلى قوة!
انعكس هذا التحول اضطرابا وخوفا في قلوب المشركين وفي صفوفهم، لقد هالهم انطلاق هجوم المسلمين كالسيل الجارف، بشغف وشوق عارم للقاء أعدائهم والاقتصاص منهم. لقد هالتهم تلك القوة!
النبي القائد العسكري الفذ
وصل المسلمون إلى بدر قبل المشركين، وهنا بدأ التفكير في أفضل تخطيط استراتيجي يعطل العدو، فأشار الحباب بن المنذر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ماء بدر خلفه، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم مشورته.
وفي صبيحة يوم المعركة جعل النبي صلى الله عليه وسلم جيشه في صفوف منتظمة للقتال، وبقي صلى الله عليه وسلم في قبة بجواره سعد بن معاذ ليدير المعركة،
لقد توجه النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء إلى ربه بشدة، حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملاۤئكة مردفين) [الأنفال: 9]، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) [القمر: 45].
وكانت البداية معية ربانية وتأييدًا لا يقوى عليه بشر!
فرمى النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في وجوههم بالحصى، قال تعالى: (وما رميت إذ رميت ولـٰكن ٱلله رمىٰ) [الأنفال: 17]،
وبدأت المعركة بمبارزة تاريخية، فتقدم عتبة بن ربيعة، وابنه الوليد، وأخوه شيبة، فخرج لهم شباب من الأنصار، فرفضوا مبارزتهم وأصروا على أن يبارزهم المهاجرون من بني عمومتهم، ما يعكس شدة الحنق التي كانت تكنها صدورهم وذلك الغيظ الذي يغذيه الكفر.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه، بالمبارزة، فخرج فرسان الإسلام الأبطال بعزيمة لا تُبارى وإقبال مهيب.
فقتل حمزة عتبة في لحظات، وقتل علي شيبة في لحظات، وأثخن عبيدة والوليد كل واحد منهما صاحبه، ثم مال علي وحمزة على الوليد فقتلاه، واحتملا عبيدة، رضي الله عنهم أجمعين.
كانت نتيجة المبارزة مرهبة لقريش وبدأت الهجوم باضطراب وخوف، وفي هذه الأثناء بدأت الخطوة الثانية من المواجهة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرماة برمي المشركين بالنبل إذا اقتربوا من المسلمين.
والتحم الجيشان، وصدق الله المؤمنين وعده، وأمدهم بالملائكة مردفين! قال تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فٱستجاب لكم أني ممدكم بألف من ٱلملاۤئكة مردفين (9) وما جعله ٱلله إلا بشرىٰ ولتطمئن به قلوبكم وما ٱلنصر إلا من عند ٱلله إن ٱلله عزيز حكيم) [الأنفال: 9-10].
وكان يوما من أيام الله نصر الله فيه عباده على قلتهم لصدق قلوبهم وهزم أعداءهم على كثرتهم لخبث قلوبهم! فمن كان الله مولاه فلا يخشى عدوا مهما تجبر. قال تعالى (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 249).
ثم ما أن بدأ غبار المعركة ينزل على الأرض حتى انكشفت للمسلمين مصارع أهل بدر تماما كما نبأهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، بأسمائهم قبل المعركة، حيث قال قبل المعركة: «هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى».
وكانت نتيجة المعركة، جثث المشركين على الأرض وتحت حوافر الخيل، تشهد لشدة النزال، وفر من تبقى منهم يدفعهم الخوف والهلع!
لقد قتل في يوم الفرقان هذا، عدد من أهم زعماء قريش، منهم: أبو جهل، عمرو بن هشام، الذي سابق على قتله معاذ بن عمرو ابن الجموح، ومعاذ بن عفراء وهما غلامان، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود.
وقُتل أمية بن خلف، وابنه عليا قتلهما بلال بن رباح مع جمع من الأنصار وهو بلال الذي كان يعذب يوما مضى في رمضاء مكة! (وما كان ربك نسيا).
وقتل في هذه المعركة من أئمة الشر شيبة بن ربيعة. وفر أصحابهم وتركوا خلفهم غنائم كثيرة.
وانتهت هذه المعركة الخالدة لجيش صغير مؤمن أمام جيش كبير كافر، بمقتل 70 من المشركين وأسر 70 أسيرا منهم، وكانت أول ضربات الحق القاصمة بقوة الحديد! قال تعالى (وَأَنـزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) (الحديد: 25).
وكان لا بد لهذا المجد من ثمن، ولا بد لهذا النصر من فداء ومهر، فدفن صلى الله عليه وسلم شهداء المسلمين وكان عددهم أربعة عشر شهيدا. ستّة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. رضي الله عنهم وأرضاهم. وكان الصحابي حارثة بن سراقة أول من استشهد في المعركة.
حري أن يتعلم المسلمون معركة بدر، بكل تفاصيلها وبطولاتها ويتأملوا براعة التخطيط والقيادة النبوية فيها، حري بهم أن يربوا أنفسهم على هذا النور من العزة، ليعلموا أن دين الله تعالى دين مؤيد بنصر الله بقدر تأييدنا لدين الله! دين الله دين قوة وعزة لا يقبل الضعف والذلة.
وبدون هاتين القوتين لا يمكن للمسلمين أن يصمدوا، قوة القلب وقوة السيف، لقد كان هذا النصر دفعة من العزة واليقين، استعشر بها المؤمنون مواساة الله تعالى لهم بعد أن طال ليل الظالمين!
وكان لما بعد بدر ما لا يسمح بالتراجع أو الدنية!
ما بعد المعركة
أقام رسول الله في بدر ثلاثة أيّام بعد انتهاء المعركة؛ فدفن الشهداء، وتأكد من انهزام كامل لقريش، وليسترجع المقاتلون أنفاسهم ولجمع الغنائم.
وعلمهم الله تعالى كيف يتعاملون مع الغنائم وهذا فقه لم يكن المسلمون يعرفونه قبل بدر وكانوا بحاجة لتعلمه لما هو آت، قال تعالى (وَاعلَموا أَنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسولِ وَلِذِي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكينِ وَابنِ السَّبيلِ إِن كُنتُم آمَنتُم بِاللَّـهِ) (الأنفال: 41).
وعاد النبي ومعه أسرى المشركين، وقُتِل منهم اثنان مّمن عُرِفوا بأذيّتهم الشديدة للمسلمين، وهما: النضر بن الحارث الذي كان حاملاً للواء المشركين في المعركة، وعقبة بن أبي معيط الذي حاول من قَبل خَنق رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بردائه.
واستشار النبي الصحابة في أمر الأسرى عندما عاد إلى المدينة، فرأى أبو بكر -رضي الله عنه- أخذ الفدية منهم، ورأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الحزم وقَتلهم؛ لشدة أذيتهم للمسلمين فاختار النبي رأي أبي بكر.
فكانت الفدية عن الأسير ألف إلى أربعة آلاف درهم فإن لم يجد ما يفدي به نفسه، علّم الكتابة لعشرةٍ من مُسلِمي المدينة،
وقد مَنّ رسول الله على عدد من الأسرى بإطلاق سراحهم دون الفداء، منهم: المطلب بن حنطب، وأبو العاص زوج ابنته زينب.
فضل أهل بدر
لأنها كانت معركة فاصلة أولى، منّ الله تعالى على عباده المؤمنين الذين شاركوا فيها، بفضل عظيم، وخلد الله ذكرهم في القرآن الكريم، حيث قال جل جلاله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّـهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ) (آل عمران: 13).
وروى البخاري في صحيحه الحديث الذي يخاطب فيه جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما تعُدُّون أهلَ بدرٍ فيكم؟ قال: من أفضلِ المسلمين، أو كلمةً نحوَها، قال: وكذلك من شَهِد بدرًا من الملائكةِ”.
في صحيح البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم :”لَعَلَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ”.
بين المدينةومكة
غمرت الفرحة في المدينة قلوب المسلمين مع وصول بشرى النصر المبين، لقد أنجز الله وعده لعباده المؤمنين، بينما كانت الغصة في صدور المنافقين واليهود، لقد أحبط الله آمالهم.
وتزينت المدينة بعد هذه المعركة بقوة وهيبة، فأصبح الكافرون يحسبون لها ألف حساب، وفتحت المناحات في مكة، يا لهول الصدمة، لم يتوقع الجبابرة أن يغلبهم فتية آمنوا بربهم! ولم يتوقعوا انكسارا مذلا كهذا الانكسار. وخيم الحزن الشديد على قلوبهم ومساكنهم، لا يقوون على مداراة شعور الخزي والهوان.
بركة النصر في بدر
كان نصر الله للمسلمين في بدر بمثابة حصانة لهم وتعزيز لدعوتهم وكان فيه المواساة للمسلمين ومزيد تحريض لهم على الأقبال بعزيمة أقوى لما هو آت، وازدادوا إيمانا على إيمانهم وثباتا على ثباتهم وعزما على عزمهم. وإن كان هذا الصعود الإسلامي رافقه ظهور النفاق، حيث أعلن المنافقون إسلامهم ظاهرا أمام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه خشية من تفوقهم. إلا أن المقبلين على الإسلام تزايدوا بعد هذا النصر وأصبحوا أكثر ثقة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت بوابة فتوحات للدعوة للإسلام وتوسع رسالته.
وكانت هذه المعركة بمثابة تجربة عملية للقتال المباشر لجيش المسلمين، فاكتسب منها المسلمون خبرة قتالية وعسكرية كما تخلصوا بفضلها من زعماء قريش الأشد عداوة للمسلمين والأكثر كفاءة بين المشركين من ناحية القيادة، كأبي جهل وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، فكانت خسارة مضاعفة لقريش.
وبعد بدر أصبح الحديث عن المدينة يحفه الهيبة والتقدير وفرض المسلمون سيادتهم في الأرض وفرق الله بهذه المعركة بين الحق والباطل فسماها يوم الفرقان قال تعالى (ومآ أنزلنا علىٰ عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) [الأنفال: 41]، فكانت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ولعل أهم الدروس من معركة بدر هي التربية التي يربي بها النبي صلى الله عليه وسلم صحابته على الحق والقيام به، يربيهم بمحبة وبصيرة، فيخرج أحسن ما فيهم من بذل وخير.
ثم ذلك المدد الرباني لكل من صدق بالله تعالى وكيف أن الحقوق لا تسقط بالتقادم فيقتص من المجرم والظالم وإن طال الزمن.
وكيف تتغير الأحوال من ضعف إلى قوة حين تكون الاستجابة لله لا لجلجلة فيها ولا تردد وحين يكون اليقين غلابا وحين يكون رجاء ما عند الله هو الأسبق.
لقد صدق الصحابة ما عاهدوا الله عليه فصدقهم، وما لم نضبط نوايانا ونصدق في بيعاتنا مع الله تعالى فلن نحقق عزة ولا قبولا. فلله الأمر من قبل ومن بعد.
كانت هذه المعركة في شهر رمضان المبارك، لم يكن شهر نوم وكسل واعتذار، إنما شهر إعلاء كلمة الله تعالى، وتلك مهمة المسلم الأولى في هذه الدنيا.
كانت معركة تقوم على الصدق والتوكل والرجاء والإعداد، وكذلك يسطر النصر في كل زمان ومكان.
كانت معركة تحمل الدروس الجليلة الكثيرة التي لا تقدر مقالة على جمعها كلها واستيفاء عظمتها جلها، ولكن المؤمن ببصيرته يستخلص من بين السطور الكثير من هذه الدروس ويقيم نفسها عليها، مؤمنا بوعد الله الحق، مقتديا بنبيه صلى الله عليه وسلم وصحابته، فهم القدوة الأولى والمثل الأمثل.
﴿فَاصبِر إِنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَستَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ﴾
اللهم اجعلنا من الذي اتبعوا السابقين الأولين بإحسان وأقر أعيننا بالنصر المبين للإسلام.
المصادر:
البداية والنهاية لابن كثير
الرحيق المختوم
سيرة ابن هشام
النشرة البريدية
بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.
مقالٌ طيب، لقد أجَدتِ فيما كتبتِ دكتورة ليلى، جزاكم اللهُ خيراً ونفع بكم.
ما أشبه اليوم بلامس
الحرب بين الاسلام والكفر(اهل غزة العزة وجحافيل الكفر:الغرب+الشرق) والمنافقين…
انها تمثل غزوة بدر الكبرى