بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.
المهاجرون إلى أوروبا .. طريق الموت ومستقبل الجحيم أو الهجرة العكسية
إن الحديث عن حال المهاجرين إلى أوروبا أضحى أولوية مع تزايد التقارير التي تكشف انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وحقد أعمى يطارد المسلمين من المهاجرين بشكل خاص، وما آلت إليه أوروبا من واقع مرير، أحدث هجرة عكسية قليلا ما تسلط عليها التقارير الضوء.
إنها قضية يشوبها الكثير من التعتيم، ومع ما يتسرب من معلومات يشيب لها الولدان، ندق جرس الإنذار، ونطلق صيحة نذير قبل أن يهلك منا المزيد!
طريق الموت
تؤكد التقارير الرسمية “المعلنة” من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين على أن عدد المهاجرين الذين يلقون حتفهم في البحر، يزداد في كل عام، فمن بين إجمالي عام 1443هـ (2021م) تم الإبلاغ عن وفاة أو فقدان 1,924 شخصا على طرق وسط وغرب البحر الأبيض المتوسط، في حين لقي 1,153 شخصا إضافيا حتفهم أو فقدوا على الطريق البحري لشمال غرب أفريقيا إلى جزر الكناري، وبلغ عدد الوفيات لعام 1442هـ (2020م)، 1,776 حالة وفاة على الطرق الثلاثة، مما يعكس زيادة قدرها 478 شخصا منذ بداية هذا العام. بينما ارتفع العدد في العام الماضي لأكثر من 3000 شخص لقوا حتفهم أو فقدوا أثناء محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي وفقا لتقارير المفوضية.[1]
وقالت المتحدثة باسم المفوضية، “شابيا مانتو” للصحفيين في مؤتمر صحفي دوري في جنيف[2]: “جرت معظم عمليات العبور البحرية في قوارب مطاطية معبأة وغير صالحة للإبحار – انقلب الكثير منها أو انكمش مما أدى إلى خسائر في الأرواح”.
وقالت شابيا مانتو في حديثها عن المعابر الخطرة: “انحرفت العديد من القوارب عن مسارها أو فقدت دون أي أثر في هذه المياه”.
ولا تزال الطرق البرية أيضا شديدة الخطورة، حيث قد تكون أعداد أكبر قد ماتت أثناء رحلاتها عبر الصحراء الكبرى والمناطق الحدودية النائية، أو في مراكز الاحتجاز، أو أثناء احتجازها من قبل المهربين أو المتاجرين بالبشر. بحسب المفوضية التي تؤكد على أن عمليات القتل خارج نطاق القضاء، والاحتجاز التعسفي، والعنف الجنسي والعنف القائم على نوع الجنس، والعمل القسري والزواج ليست سوى بعض الانتهاكات التي أبلغ عنها الأشخاص الذين يسافرون على هذه الطرق.
القتل المتعمد للمهاجرين
لم يكن صادما رفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لصور أطفال سوريين في مجلس الأمن متهما السلطات اليونانية بإغراقهم عمدا أثناء رحلة اللجوء إلى أوروبا. وبغض النظر عن الجدل الذي أثاره الخبر، فما يهمنا هنا هو جزئية تعمد قتل المهاجرين بدم بارد من سلطات الأنظمة الأوروبية.
فالقتل المتعمد للمهاجرين تكرر رصده في عدة أخبار تنتشر على مواقع التواصل ونادرا ما تحظى بتغطية إعلامية لائقة، منها حوادث إطلاق النار على زوارق المهاجرين، على سواحل بعض دول شمال إفريقيا. أو عند الحدود الأوروبية حيث تسطر جرائم بشعة جدًا كما أكدت تسريبات عن جرائم قطع الآذان والضرب ثم الدفن أحياء تحت الصخور لمهاجرين عرب على يد سلطات اليونان والبلغار[3]. وهكذا يستهدف المهاجرون قتلا عند انطلاق رحلتهم الخطرة وأيضا عند وصولهم.
ومما تم رصده في الصحافة قتل خفر سواحل يونانيين لمهاجرين مسلمين بإلقائهم بشكل متعمد في البحر، وتتفق الشهادات على أن الكثير من المهاجرين تعرّضوا لأعمال عنف من جانب خفر السواحل اليونانيين الذين صادروا هواتفهم المحمولة وأموالهم، وأخضعوهم لعمليات تفتيش جسدي عدوانية ومهينة.
ويتّهم الكثير من المنظمات غير الحكومية اليونان بسوء معاملة المهاجرين في المخيّمات وبتنظيم عمليات ترحيل غير قانونية لهؤلاء، وفي وقت سابق من شباط/فبراير تم العثور على جثث 19 مهاجراً وقد قضوا من شدّة البرد بالقرب من الحدود اليونانية، في مأساة اتهمت أنقرة السلطات اليونانية بالتسبب بها، وهو ما نفته الأخيرة كما اعتادت النفي رغم تكرر نفس الحادثة بنفس النهاية المؤلمة للمهاجرين.
وقد انتشرت العديد من صور مهاجرين تمت تعريتهم من ملابسهم على يد السلطات اليونانية في جو من الثلج والبرد الشديد، وقد تعرضوا للضرب والإذلال، فماتوا كمدًا قبل الموت جسدًا!
“نصف ساعة والكلاب تنهشنا وهم يضحكون”[4]
روى أحد المهاجرين السوريين وفق ما وثّقت “مجموعة الإنقاذ الموحد” تفاصيل تعرُّضه لتعذيب وحشي من قبل حرس الحدود البلغاري بعد أن تمكن من اجتياز الحدود وأصبح في أوروبا.
وقال المهاجر: أنه انطلق مع مجموعة مؤلفة من عشرة أشخاص بينهم قاصرانِ من إسطنبول باتجاه مدينة “حمزة بيلي” الواقعة بولاية أدرنة على الحدود البلغارية. وتابع: “وصلنا في تمام الساعة 3 فجرا الحدود البلغارية وفي الساعة السابعة والنصف صباحا قمنا باجتياز الحدود البلغارية، وفي الساعة 12 ظهرا تم إلقاء القبض علينا من قبل عناصر الكومندوس البلغاري ومعهم كلاب. قاموا بضربنا وسرقة التلفونات والنقود التي معنا ثم قاموا بإطلاق الكلاب علينا”. وواصل:”أنا تعرّضت للعضّ من قبل الكلاب وكان عناصر الكوماندوس يضحكون ويشربون السجائر مستمتعين بالمنظر ونحن نتوسّل إليهم لإرجاعنا إلى تركيا، لكنهم لم يأبهوا لتوسّلاتنا. أنا لم أستطع فعل شيء، الكلب ينهش في جسمي وأنا أتوسل إليهم والجو بارد جدا”. وأردف: “بعد نصف ساعة من التعذيب النفسي والكلاب تحاصرنا وتعضّنا قاموا بالاتصال بعناصر آخرين جاؤوا إلينا، طلبت منهم إسعافي إلى المستشفى وتقديم بعض الإسعافات لأن رجلي كانت تنزف كثيرا لكنهم قاموا بالاعتداء علينا بالضرب ولم يأبهوا إلى الجروح في جسمي وأخذوا ملابسنا والأحذية والجو بارد جدا، وقاموا بإعادتنا إلى تركيا. بقينا تقريبا حوالي 5 ساعات تائهين في الغابات التركية والجو شديد البرودة”. فهذا بعض ما يعيشه المهاجرون إلى بلاد لطالما تسترت بدعايات حقوق الإنسان..!
ويفقد الكثير من طالبي اللجوء حياتهم خلال محاولتهم العبور إلى أوروبا، إما نتيجة لتعرضهم للضرب الشديد والمعاملة غير الإنسانية من قبل قوات حرس الحدود خاصة في اليونان وبلغاريا، وزادت مؤخرا حالات الاعتداء على اللاجئين وكان للسوريين النصيب الأكبر منها، سواء في اليونان أو حتى تركيا (الجندرما) وسط صمت دولي وحكومي نتج عنه سقوط العديد من الضحايا السوريين بينهم أطفال، جراء رصاص أُطلِق دون مبرِّر، أو عمل متهوّر أسفر عن تعرّضهم للموت أو الغرق.[5]
هذا في حال لم تتم تصفيتهم بصمت! ودون الحديث عن حالات إلغاء اللجوء والطرد بعد تأمين الوصل وهي حالات مأساوية أخرى.
الإرسال إلى إفريقيا
تؤكد العديد من التقارير أن بريطانيا ومؤخرا بدأ الحديث عن الدانمارك، يعملون على تحويل اللاجئين إليهم بشكل خادع إلى دول إفريقية كرواندا حيث تم إنشاء مركز لمعالجة طلبات اللاجئين في الخارج.
وتواجه لندن معارضة كبيرة لاتفاق مثير للجدل أبرمته مع كيغالي ينص على إرسال المهاجرين وطالبي اللجوء الذين يعبرون المانش بطريقة غير قانونية، إلى رواندا، في وقت تحاول بريطانيا وضع حد لتدفق أعداد قياسية من الأشخاص عبر الممر المائي المحفوف بالمخاطر. ووصل أكثر من 28 ألف شخص من فرنسا إلى بريطانيا على متن قوارب صغيرة عبر المانش عام 1443هـ (2021م). وكان حوالى 90 في المئة من هؤلاء رجال وثلاثة أرباعهم رجال تراوح أعمارهم بين 18 و39 عاما. وذكرت تقارير إعلامية سابقة غانا ورواندا كبلدين محتملين يمكن للمملكة المتحدة أن تستعين بهما في إتمام معالجة ملفات المهاجرين، لكن غانا نفت أي دور لها في المسألة في كانون الثاني/يناير. وأما كيغالي فأعلنت أنها وقّعت اتفاقا بملايين الدولارات مع المملكة المتحدة للقيام بهذا الدور، خلال زيارة لوزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل.
وقال وزير الخارجية الرواندي فانسان بيروتا في بيان إن “رواندا ترحّب بهذه الشراكة مع المملكة المتحدة لاستضافة طالبي لجوء ومهاجرين وتوفير سبل قانونية لهم للإقامة” في الدولة الإفريقية.
وستموّل المملكة المتحدة الاتفاق مع رواندا بقيمة 120 مليون جنيه استرليني (157 مليون دولار)، ليتم “دمج (مهاجرين) في مجتمعات عبر البلاد”، وفق بيان كيغالي.
وقال وزير الصحة في اسكتلندا حمزة يوسف إن الخطة تظهر بأن الحكومة المحافظة “عنصرية على الصعيد المؤسسي”. وقال في تغريدة إن الحكومة “تمنح بشكل محق اللجوء إلى الأوكرانيين الفارّين من الحرب، لكنها تريد إرسال طالبي لجوء آخرين إلى رواندا على بعد آلاف الأميال لـمعالجة طلباتهم”.[6]
وقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية وصحف غربية أخرى، تقارير تثبت تسفير مهاجرين لاجئين قسرا إلى مخيمات اللاجئين في أوغندا رغم معارضتهم لذلك.
هجرة عكسية
ومع حجم الاهتمام بالهجرة إلى أوروبا، ظهرت مؤخرا هجرة عكسية بشكل متزايد من المسلمين المقيمين قانونيا في الدول الأوروبية، وقد سلط الضوء على هذه الظاهرة، تقريران حديثان نشرتهما وكالة أنباء ألمانية أن “بانوراما” و”STRG_F” تؤكد فرار اللاجئين السورييين الشرعيين في ألمانيا ومن أوروبا بشكل غير قانوني إلى تركيا بأعداد متزايدة.
ووفقا للتقرير، فإن بعضهم ينطلق في رحلات أطول على طول طريق العودة إلى سوريا التي مزقتها الحرب. ومن المفارقات أن طريق العودة إلى تركيا هو نفسه الذي سلكه آلاف اللاجئين السوريين قبل ثلاث سنوات، ولكن في الاتجاه المعاكس. ونظرا للوجود العسكري الكثيف على ضفتي نهر إيفروس اليونانية والتركية، يجب أن تتم عمليات العبور ليلا. في نفس الأبراج المضغوطة التي جاءوا إليها، يعبر اللاجئون عائدين إلى تركيا حيث تتعرض حياتهم مرة أخرى أثناء العودة للتهديد بسبب التيارات الباردة والقوية للمياه المرتفعة.[7]
وفي تعليقه على هذه المسألة، قال سفير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في ألمانيا دومينيك بارتش لبانوراما إن “الهجرة العكسية” ربما استمرت لفترة أطول مما نعرف، وأنه من المستحيل تحديد العدد الدقيق لمثل هذه الحالات. وفقا لمقال نشرته دويتشه فيله، يقول المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين أن حوالي 4000 لاجئ غادروا البلاد دون إخطار في عام 1439هـ (2017م) ولكن من المرجح أن يكون العدد الحقيقي أعلى.[8]
وتقدر المنظمة الألمانية المؤيدة للهجرة “برو أسيل”، على موقعها الرسمي، أن 1,713 حادثة عنف ضد اللاجئين وقعت في عام 1439هـ (2017م) في جميع أنحاء البلاد. ويشمل هذا العدد ثلاثة وعشرين هجوما حارقا وغيرها من أشكال جرائم الكراهية الجسدية واللفظية التي أثرت على قرار العديد من السوريين بالفرار من ألمانيا.[9]
وهكذا بعد رحلة شاقة مليئة بالعديد من العقبات، بما في ذلك عبور البحر الأبيض المتوسط وعبور الأسوار الحدودية المرتبطة بالسلسلة، يعود اللاجئون المحبطون من واقع أوروبا إلى تركيا بشكل غير قانوني. تاركين خلفهم وثائق الإقامة، إلى جانب الفوائد المرتبطة بها التي يحلم بها غيرهم ممن يسلك نفس الطريق معرضا حياته للخطر من أجل تحقيق الوصول لأرض أوروبية!.
لقد تحطمت أحلام اللاجئين بعد وصولهم لأرض أوروبا، حين شاهدوا الواقع بأعينهم، وأدركوا أنه جحيم آخر لم يكن في الحسبان. فبين عنصرية مؤذية واستغلال بشع وبين قوانين قاسية على الأسر والأطفال. خاصة مع ترسخ الإسلاموفوبيا. وارتفاع معاملة الكراهية والرفض للمسلمين. يشعر المهاجر بالفشل!
لقد تعرض العديد من المهاجرين لأمراض نفسية وانتكاسات صحية كبيرة، منهم من تعرض لنوبات قلبية، ومنهم من يمشي في الشوارع في حالة مزرية!
ووفقا لعالم الاجتماع يوسف يازن، يعاني عدد كبير من اللاجئين السوريين المقيمين في ألمانيا من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) الذي لم يعالجوا منه بشكل صحيح. وبدلا من ذلك، ازدادت هذه الحالات نتيجة الشعور بالوحدة، والافتقار إلى الروابط الاجتماعية، والصدمة الثقافية المرتبطة بالزج بها في العادات والتقاليد الأجنبية. ويبدو أن تزايد حالات الانتحار بين اللاجئين الشباب نتيجة لإحباطهم وفشلهم في بناء روابط اجتماعية جديدة، وعدم قدرتهم على رعاية أنفسهم، يؤكد تقييم يازن.[10]
وقد ظهر خلاف ملحوظ داخل الأسر بسبب الاختلافات بين الثقافة السورية والأوروبية. خاصة حول أدوار الجنسين والأسرة. وتنعكس هذه الفجوة في العديد من العائلات السورية التي وصلت إلى ألمانيا وانهارت وحداتها العائلية. لقد تمردت النساء على أزواجهن (خاصة في أعقاب الحركة #MeToo) وتمرد الأطفال على والديهم، مما تسبب في صراع داخل عائلات اللاجئين ودفع البعض إلى التفكير في العودة إلى سوريا[11].
الهجرة العكسية من السويد
وتستمر أرقام الهجرة العكسية إلى خارج السويد في الارتفاع، حيث في الوقت الذي تعتبر السويد من أكبر الدول استقبالا للاجئين، ها هي تحقق أرقاما قياسية في عدد المهاجرين بما فيهم المتجنسين الذين تركوا السويد في اتجاه دولة أخرى للاستقرار بها.
وأوضحت أرقام مكتب الإحصاء السويدي، أن عدد المواطنين السويدين التاركين للسويد في عام 1436هـ (2015م) بلغ 56.000 شخص.[12]
ووصل عدد المهاجرين من السويد خلال عام 1437م (2016م) إلى 41757 مهاجر أي ما يقارب 42 ألف مواطن حامل للجنسية السويدية ترك السويد كمحل إقامة وانتقل للاستقرار بدول أخرى
بينما في العام 1438هـ (2017م) وصل عدد المواطنين السويديين المهاجرين إلى خارج السويد 41757 مواطن سويدي غادر السويد للاستقرار بدولة أخرى !… أي ما يقارب 42 ألف مواطن حامل للجنسية السويدية ترك السويد كمحل إقامة وانتقل للاستقرار بدول أخرى .
وفي 1439هـ (2018م) وصل إلى ما يقارب 20 ألف مواطن سويدي قاموا بأنهاء عناوين إقامتهم وانتقلوا إلى خارج السويد بشكل دائم، مقابل 19.785 ألف مهاجر وصل السويد وقام بتقديم طلب لجوء خلال عام 2018[13] .
وتشير التقارير لأعداد أكبر بكثير في سنة 1444هـ (2022م) للفارين من السويد، تتجاوز الـ 50 ألف شخص، بما فيهم غير المسلمين، بعد انتشار جرائم خطف الأطفال واشتداد اعتداءات السوسيال في السويد بشكل كبير، التي وثّقت بشهادات مهاجرين خطف أبناؤهم بلا سبب ليوضعوا في أسر شاذة وملحدة حيث يتعرضون للاستغلال الجنسي، ثم يعودون بعد ذلك منتكسين منسلخين عن دينهم.
الهجرة العكسية من بريطانيا
تعيش كل الدول الأوروبية هجرة عكسية لكننا نركز على أكثر الدول استقبالا عادة للمهاجرين، فبعد ألمانيا والسويد، كمثال، ومما تم رصده خلال السنوات الأخيرة الماضية، أنه لا يمر أسبوع واحد على بريطانيا إلا وشهد هجرة الآلاف من البريطانيين عبر الحدود، باحثين عن فرص حياة أفضل لهم خارج حدود بلادهم. ولقد كان مثيرا للدهشة أن يشهد هذا البلد المولع بالهجرة واستقبال المهاجرين بالآلاف سنويا، أن يسجل أرقاما قياسية غير مسبوقة لمغادرة مواطنيه له. حيث تشير البيانات والمعلومات الرسمية إلى مغادرة ما يزيد على 350 ألف بريطاني سنويا لبلادهم، وهو معدل يصل إلى ما يقارب نسبة 50 في المئة عما كان عليه واقع الهجرة العكسية قبل عشر سنوات[14]. وتشمل هذه الأرقام المهاجرين والمواطنين البريطانيين الأصليين.
تزايد الهجرة العكسية
تناقصت أعداد المهاجرين إلى أوروبا بعد الاتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي في آذار/ مارس عام 1437هـ (2016م) بهذا الخصوص، حيث تم بموجب ذلك الاتفاق، تشديد المراقبة على السواحل التركية واليونانية وإعادة كل من يصل إلى الجزر اليونانية من تركيا إلى تركيا مجددا على أن يتم إرسال لاجئين من تركيا غالبيتهم من المخيمات في إطار برنامج إعادة التوطين.
لكن وبالمقابل بدأت هجرة عكسية وبطرق في معظمها غير شرعية من أوروبا إلى تركيا، حيث يصل القادمون جوا أو برا الى مدينة سالونيك في اليونان باستخدام وثائق مزورة أو حقيقية ثم بعد ذلك وعبر طرق مختلفة يتوجهون برا إلى مدن لافارا أو ذيذيموتيخو أو سوفلي اليونانية الحدودية مع تركيا، ومن ثم السير على الأقدام لعدة ساعات عبر الغابات وصولا إلى نقطة العبور عند نهر ايفرسون حيث يتم قطع النهر إلى الطرف التركي في ولاية أدرنة.
وتتم العملية إما بشكل مباشر من قبل طالبي الهجرة العكسية بالاستفادة من تجارب وخبرات لاجئين سابقين عادوا من أوروبا ومشاركتها عبر صفحات ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة (على سبيل المثال وصل عدد أعضاء إحدى المجموعات التي تُعنى بالهجرة العكسية إلى27 ألف عضو)، أو تتم العملية عبر المهربين مقابل مبلغ من المال.
لا توجد إحصائيات دقيقة لعدد العائدين من أوروبا إلى تركيا لأن الهجرة تتم في غالبيتها بشكل غير شرعي، لكن هناك بعض الأرقام والتقارير التي قد تعطينا تصوراً عن أعداد العائدين وهي أعداد معتبرة تنافس بالمقابل أعداد المهاجرين إلى أوروبا.[15]
أبرز الأسباب التي تدفع للهجرة العكسية
1- صعوبة لم الشمل وتشتت الأسر في دول الاتحاد الأوروبي، ففي النمسا مثلا هناك شرط يفرض المدة التي يسمح فيها لللاجئ بتقديم طلب لم الشمل وهي خلال الـ 3 أشهر الأولى من قدومه بالمقابل يشترط عليه تقديم إثبات بأنه يعمل وقادر على إعالة نفسه وأسرته التي يريد لم شملها مع وجود سكن وتأمين صحي لجميع أفراد الأسرة وبالتالي يصعب على الكثيرين تحقيق هذا الشرط.
2- الرغبة بالعودة لدى العالقين لفترة طويلة على الحدود وخاصة في اليونان بسبب الظروف السيئة في المخيمات التي يعيشون فيها وطول فترة الانتظار.
3- عدم القدرة على التأقلم مع المجتمعات الأوروبية القائمة على الصرامة في تطبيق القوانين وبالمقابل الانفتاح والحرية المجتمعية، أيضا القوانين المتعلقة بالأولاد التي تمنع التدخل بحياتهم حتى من قبل الوالدين والتخوف من ضياعهم نتيجة اختلاف المعايير الأخلاقية والتحرر من رقابة الوالدين والمجتمع. أيضا الخوف من نزع رعاية الأطفال واحتمال إعطائهم لأسر أخرى بحجة العنف الأسري أو عدم الكفاءة والتي تستعمل غالبا كستار للتمييز العنصري ضد المسلمين.
4- طبيعة المناخ وفترة الشتاء الطويلة القاسية وكذلك طول فترة الليل وقلة شروق الشمس جعلت الكثير من اللاجئين لا يستطيعون التأقلم فيزيولوجيا ويتناولون الكثير من الفيتامينات ومضادات الاكتئاب للتخلص من الخمول والكسل والاكتئاب.
5- وجود نزعة العداء والعنصرية والتشكيك ضد الأجانب وإساءة معاملتهم والاعتداء عليهم والفوبيا من الدين الإسلامي في عدة مناطق.
6- صعوبة المعاملات الرسمية مع شعور المراقبة المستمر والحاجة الملحة للعمل وفق معايير الغرب التي تحول الإنسان لمجرد آلة منتجة خاضعا لمنظومتها الرأسمالية والعلمانية.
وفي هذا السياق أكد مستشار مفوضية الاتحاد الأوروبي لشؤون اللاجئين في بروكسل، وليد درويش، في تصريح لبعض الوكالات بـ “أن السوريين اضطروا للسفر إلى أوروبا هربا من الحرب، إلا أن الكثيرين منهم عادوا من أوروبا إلى تركيا لعدة أسباب رسخت مفهوم الهجرة العكسية”. وتابع درويش قائلا: “إن هناك نسبة منهم لا تستطيع التكيف سواءً مع الجو، وطريقة الحياة، والتصرفات العامة”[16].
ونلاحظ أن أغلب التقارير تشير إلى المهاجرين السوريين، إلا أن الحال نفسه مع المهاجرين من كل العالم الإسلامي.
الهجرة العكسية تتصاعد مع استمرار الحرب
لا يستبعد العديد من اللاجئين في أوروبا مؤخرا من العودة الى أوطانهم الأم بحثًا عن الراحة النفسية والخدمات المعيشية الضرورية في إطار الهجرة العكسية المتوقع حدوثها في القريب العاجل بعد تفاقم الأوضاع في القارة العجوز التي أصبحت الحرب بين روسيا وأوكرانيا تستنزفها بشكل كبير، خصوصاً بعد ردّ روسيا على عقوبات الغرب بقطع إمدادات الطاقة عن العواصم الأوروبية.[17]
ولا ينحصر موضوع الهجرة العكسية باللاجئين فقط، حيث يفكّر العديد من الأوروبيين أيضًا بالهجرة من بلادهم بحثًا عن مناطق أكثر هدوءا واستقرارا لهم ولعائلاتهم. ومنهم من بدأ بالفعل بالرحيل إلى دول الخليج أو أستراليا ودول أخرى.
فأوروبا اليوم لم تعد كأوروبا قبل سنة حيث تعاني القارة العجوز حاليا من مستويات تضخم قياسية وصلت إلى 8.1% بحسب بيانات أولية عن مكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات)، فالعقوبات ضد موسكو أغرقت هذه الدول في أزمة بعد أن ارتفعت كلفة الطاقة وزادت معه كلفة البضائع الأخرى.
والدول الأكثر تضررا من هذه الأزمة هي إستونيا وليتوانيا ولاتفيا، التي شهدت ارتفاعا حادا في الأسعار. أما أكبر اقتصاديات الاتحاد، وهي ألمانيا وفرنسا، فقد بلغت نسبة التضخم فيها على التوالي 8.7% و5.2%. وقد ظهرت عليها هي الأخرى علامات المعاناة واندلعت فيها الاحتجاجات الشعبية التي لا تزال تقمع بالقوة في كل مرة!
فحالة السخط من الأوضاع الإقتصادية التي تتأزم يوما بعد يوم، والارتفاع الفاحش في الأسعار بشكل تصاعدي أيضا، أصبح الشغل الشاغل للشعوب الأوروبية. وتؤكد إنسايدر مؤخرا على أن أسعار الطاقة المرتفعة قد تؤدي إلى إغلاق “آلاف” شركات الاتحاد الأوروبي، فضلا عن تقارير تحذر من الاضطرار لقطع الكهرباء وتقنين كميات الطاقة المستهلكة. بل وصل التحذير لمستوى المجاعة، خاصة بعد الجفاف الذي ضرب مناطق من أوروبا وانضم لتداعيات الحرب الروسية وتهديدات بوتين المستمرة.
وتؤكد العديد من التقارير على أن اللاجئين من الذين حصل العديد منهم على الجنسية الألمانية وجنسيات أوروبية أخرى، باتوا يخططون للعودة الى بلدانهم، والكثير منهم يرى أن عليه الإسراع في بيع كل ممتلكاته والعودة الى بلده قبل أن “يبلغ السيل الزبى”، في إشارة الى الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأ لظى نيرانها يطال جميع الدول الأوروبية. وقد انتشرت شهادات بعض من نجح منهم في الخروج على مواقع التواصل لتحذير الناس مما ينتظرهم في أوروبا.
ولا يقف الأمر على غلاء الأسعار إنما هناك أزمات عديدة باتت تُثقل كاهل المواطن الأوروبي بشكل كبير، يبدو أنها ستدفع العديد من المهاجرين إلى العودة إلى بلدانهم.
هذا فضلا عن الوضع الإجتماعي المنحدر اخلاقيا الذي يعيشه اللاجئون والذي كشفت جانبا من مآسيه قناة “شؤون إسلامية” بشهادات حية لمهاجرين يعانون الاضطهاد في بلاد الغرب.
في الختام
كان هذا عرضا مختصرا لتقديم فكرة عن واقع الهجرة للغرب التي يجب أن يعاد التفكير فيها بشكل جديّ والبحث عن بدائل أخرى وهي ممكنة لمن أعظم التوكل على الله جل جلاله، قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)). وقال رسول الله ﷺ:”إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها. فاتقوا الله وأجملوا في الطلب. ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته” (صحيح الجامع). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ: “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا”.
وقال ابن القيم رحمه الله: “الرزق والأجل قرينان فما دام الأجل باقيا كان الرزق آتيا”. (الفوائد ص 72).
ثم إن القضية لم تعد مجرد مقابل مادي ورفاهية دنيوية نجنيها من أوروبا، يتضح كل يوم أنها أصبحت مهددة بشكل أكبر مع الحرب الجارية بين روسيا والغرب، إنما القضية بلغت حد الحرب على الإسلام والفطرة، حيث يضطهد المهاجرون المسلمون ويضطرون للاحتكام لقوانين تخطف منهم أبناءهم ثم تضعهم في أحضان شواذ وعائلات ملحدة!
والأمر يزداد شدة في كل مرة، مع صعود اليمين المتطرف في بعض الدول الأوروبية[18]. الذي لا يتردد في التصريح بكراهيته للمسلمين ومحاربتهم بشكل علني، واحتقارهم بحقد أعمى!
إن العداء الغربي للإسلام معلوم ولا يحتاج لكثير شرح فنحن نشاهده في كل حدث وكل اضطهاد للمسلمين وكل حرب! نشاهده في الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم، في الإساءة لشعائر الإسلام والسخرية من الحجاب والفضيلة! خاصة منذ أصبحت الحرب المسعورة على الفطرة تفرض فرضا بسلطة القانون على المجتمعات وتركز على الأطفال بشكل مرعب!
هذا فضلا عن طريق محفوف بالأخطار يتربص بالمهاجرين للوصول لأرض مليئة بالأخطار على دينهم ودنياهم وها هي أخبار قافلة الهجرة الأخيرة التي حملت اسم “قافلة النور” تكشف عن نهاية مأساوية أخرى تنضم لسلسة مآسي المهاجرين كما كشف تقرير مصور بعنوان “باعونا وتخلوا عنا.. مهاجرون يتهمون القائمين على قافلة النور بخداعهم!”[19]
فأيها الشباب المغتر بجنة أوروبا آن الأوان لإعادة التفكير الحازم في صياغة أحلامك وتحديد أهدافك، ولا تعتقد أنك ستكون أكثر توفيقا من هؤلاء الذين قتلوا أو عذبوا أو أذلوا في الغرب، بل فكر بما يحفظ لك دينك قبل لقمة العيش،
وعندما تسمع الغرب يحاضر في “حقوق الإنسان”، دس عليهم بقدمك! إياك أن تصدق أكذوبة “حقوق الإنسان” فلا يمكن لقاتل المسلمين الحاقد أن يحفظ حقوقك.
واعلم أن أكبر عدو للأمة هم أولئك الذين يمجدون الغرب ويقضون حياتهم في تلميع صورته وتزيين أفعاله والتهوين من جرائمه والدعوة لطريقته في الحكم والعيش! ولا يجتمع حب الغرب مع حب الإسلام في قلب مؤمن!
ولأن تعيش في بيت من طين! تسعى لكسب قوت يومك وعيالك بما تيسر، وأنت آمن على نفسك ودينك، لخير ألف مرة من العيش في قصر في الغرب، تساوم على شعائر دينك وتتعرض كل يوم لهدم جزء من هويتك وأصالتك لتتحول لمجرد آلة منتجة ومواطن يسبح بحمدهم وتقدم لهم أطفالك كأنهم سبي!!
فيا أيها المهاجر للغرب اجعلها هجرة لله سبحانه، وأحسن الظن به جل جلاله، وستعيش بنفسك بركات معيته وتوفيقه إن صدقت في إقبالك واستجابتك لأمره بإقامة نفسك على طريق الاستقامة والتقوى وحسن التوكل والاستعانه به على ما يرضيه سبحانه، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)
صحح اتجاه قبلتك واجعل الإسلام هو المقياس والأساس، تبصر المشاهد بوضوح وتسكن نفسك وتطمئن لخالقها وتفوز بخيري الدنيا والآخرة. واعلم أن من ينصره الله فلا يعرف الهزيمة!
قال ابن القيم رحمه الله:
وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها ولم يك فيها منزل لك يعلم فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وقد زعموا أن العدو إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم
[1] news.un.org: Deaths at sea on migrant routes to Europe almost double, year on year
[2] news.un.org: Deaths at sea on migrant routes to Europe almost double, year on year
بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.