الفرق بين الجيل المتفرد وجيلنا، أن الصحابة كانوا يعظمون الإسلام والحق ولو على حساب الأسماء، أما في زماننا، فتقديس الرجال وتعظيمهم أعمى كل بصيرة وإن خالفوا الإسلام أو أخطأوا بحقه.
مشكلتنا أننا نقدس الأسماء ونستهين بكل خطأ ونداريه. قد ابتلينا بتعظيم الناس لا الحق! كحال أقوام مضوا كانوا “إذا سرق فيهم الشريف تركوه”.
في صحيح البخاري، قامَ رَسولُ اللَّهِ خَطِيبًا، فأثْنَى علَى اللَّهِ بما هو أهْلُهُ، ثُمَّ قالَ: “أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّما أهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ: أنَّهُمْ كانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقامُوا عليه الحَدَّ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لو أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَها”.
إن قيمة كل أمة بدرجة نصرتها للحق الذي يحمله الرجال وليس نصرة الرجال أنفسهم على حساب الحق. لقد ارتفع ذكر الصحابة رضي الله عنهم بأعمالهم بنصرتهم لدين الله، وكان الصحابي الخليفة يطلب التصويب والنصيحة لفقهه وبصيرته. وما دامت نصرتنا للرجال هي المقياس، فطريقنا طويل جدا والإصلاح عندنا متعثر!
لو جئنا بأقوال الرجال وأفعالهم المنتقدة بلا نسبة ولا كشف عن هوياتهم، لما اختلفت الأحكام كثيرا عما نراه ابتداء عند معرفة من صاحب القول والفعل. خاصة حين يكون مخالفا لدين الله وهدي النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه من غلبة الهوى على النفس تلبس لبوس العلم! وإن شئت الصدق فهي فتنة زماننا!
بعد مصاب الأمة مع دعاة علم الكلام وسوء التأويل، يظهر في زماننا مصاب آخر، هو دعاة التعصب والترقيع.
وما لم نرجع لما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بضبط مقياس الحق على القرآن والسنة بفهم السلف! سيستمر التيه والفرقة والخلافات إلى ما شاء الله أن تكون.
عن زياد بن حدير قال: “قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟! قال: قلت: لا. قال: يهدمه زلَّة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين”. (1). هذه حقيقة!
من يطيل النظر في سير السلف يجد أن أحد أهم أسباب تماسك المجتمع المسلم، التناصح في الله وحب الحق ولو على حساب حظ النفس، لذلك كانت وحدتهم لا نظير لها، تأمل كيف يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الخليفة:”الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني”. وهذا من صميم التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما أدراك من عمر يقول:”رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي” وكان يسأل سلمان رضي الله عنه، عن عيوبه، فلما قدم عليه قال: “ما الذي بلغك عني مما تكرهه!”.
وهو القائل “وددت لو أني خرجت منها كفافا لا علي ولا لي”.
هذه الكلمات لأحد المبشرين بالجنة! اليوم ترد النصيحة ويشنّع على صاحبها.
يريدون تقديسا لا يشوبه تقويم! يريدون ألا تمس عظمة وجلال قدر رجال يحبونهم للحق زعموا بينما يُنحر الحق على عتبات أهوائهم!
لقد كان الصحابي على جلال قدره! يخشى أن يخطئ، ويطلب النصيحة يستعين بإخوانه. اليوم نرى الخطأ نرى التقصير فإن ذكرت بالله، طعنت في نيتك وفي دينك. هذه صناعة الجهل في الأمة.
نحن في زمان غربة شديد، ليس بسبب أعدائنا! بل بسبب بني جلدتنا، بسبب درجة الجفاء التي أصابت القلوب والتصنيفات التي أخذت منا كل حق وعدل، وذلك التقديم للهوى على الحق والتبرير له ببلادة مملة! لا يليق أن تظهر في صفحات التاريخ إلا في صفحات الضعف والوهن. فاللهم لا تكلنا إلى إنفسنا طرفة عين!
مخطئ جدا من يعتقد أن الضعف الذي نال من الأمة كان لسبب هيمنة الأعداء عليها، كلا، بل أول أسباب تراجع الأمة بُعد أبنائها عن الإسلام، فتمكن منهم الأعداء. فلو كان العدو لوحده سببا كافيا للتراجع لما هزم الصحابة الروم وفارس! وهم أقل عدة وعتادا، بل واجهوهم بقلوب كالجبال على عكسنا قلوبنا هشة!
ستطول غربتنا أكثر مع كل يوم جديد، لأن عملية الإصلاح بطيئة وضعف استجابة النخبة غير مبشر! فكيف بالعامة. ولا بد من هزات كبيرة تعيد العقول للجادة، فطوبى لقلوب تحصنت بالحق، والتنبيه والذكرى لقلوب لا تزال تتأرجح بين الحق تارة والباطل تارة أخرى، لا تقدر على أخذ الدين بقوة! وكل ضعف له انعكاس!
قاعدة مهمة
قال ابن القيم -رحمه الله-:
“وقولهم إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل.
أما الأول: فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا شائعا وجب إنكاره اتفاقا، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله،
وأما العمل: فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار.
وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقص حكم الحاكم إذا خالف كتابا أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء!
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة، ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم،
والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر”. (2)
(1) نضرة النعيم (9/4347)
(2)إعلام الموقعين (373/1)
يا الله ما أجمل وأحسن هذا الكلام، أسأل الله عز وجل أن يبارك في مداد قلمكم رفع الله قدركم وأحسن إليكم، والله الذي لا إله إلا هو أني وددت لو كانت نساء المجتمع بل وحتى ربع نساء المجتمع تدرك هذه المعاني وترتقي وتسمو لهذا الفكر ويترسخ بداخلهن، فإنهن مربيات الأجيال وهن خط المراقبة والدفاع الأول داخل البيوت عن فكر الأبناء والأطفال والنشئ مما يتم دسه وحشوه في عقول ذراري المسلمين من جهات العبث والانحلال وحسبنا الله ونعم الوكيل نسأله سبحانه أن يصلح حالنا ورجال ونساء الأمة إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو القادر على إحياء الأرض بعد موتها وإليه عاقبة الأمور ولا حول ولا قوة لنا إلا به جل وعلا…
رضي الله عنك دكتورة ليلي وبارك فيك وفي وكثر من أمثالك تاج فوق رأس كل حر، وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم آمين آمين.