السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
نريد مقالا عن الفتور في الطاعات.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
فتور الطاعات وضعف الهمة يكاد يكون أكثر حالة سائدة في زماننا، لا تنفك حاضرة في كل تجربة وإن كانت لنفس تواقة وصاحبة همة عالية، إلا ما تصاب بشيئ من ذلك .. ولكن يتباين الناس في درجة الإصابة بالفتور، وقبل الحديث عن كيف نواجه هذه الحالة، يجب أن ننبه إلى أن للفتور أسبابا، قد تنفرد وقد تجتمع وتأثيرها يتعلق بتفاصيل ذلك.
أسباب الفتور
تتعدد أسباب الفتور وألخص أبرزها كما يلي:
- الجهل وضعف الطلب للعلم المفيد الذي يحيي القلب والجوارح عملا ووجلا.
- التفريط في عبادة الذكر وإهمالها ولذلك موجبات كسل وقلة بركة.
- الفراغ، فكل ما وُجد فراغ تسلل الباطل وكل فكرة دنية لملئه، والقلب إن لم تشغله بالحق شغله الباطل.
- الوسط، سواء أكان الأسرة المثبطة والمثيرة للمشاكل والاستياء أو الصحبة التي تجتمع على سفاسف الأمور أكثر من معاليها.
- الاستهانة بالذنوب والظلم. ولذلك تراكمات مع الوقت تضرب قلب الهمة.
- الشدة في العبادة، والإكثار فوق ما تقدر عليه النفس، وتكليفها فوق طاقتها.
- البدعة في حياة المسلم، والانحراف عن السنة وفي ذلك عامل خذلان للنفس وخسارة للمعية يخفى على الناس.
- الشللية والتبعية لفرقة أو مجموعة والدوران في فلكها، لا يخرج المرء عن هواها واهتماماتها وما يقرر أصحابه، فإن زلّوا زل معهم.
- ضعف في تربية النفس على الزهد والتعلق بمتاع الدنيا وزينتها، فتصبح كل تفاصيل الدنيا وزخرفها مهمة ويهون الأهم مع الوقت، فالقلب لا يجمع بين حب للدنيا وحب للآخرة! بل يسخر الدنيا للآخرة فإن غلب التعلق بالدنيا.. خذلته همته وتحولت لهمة دنية .. لا تبصر أبعد من حد اللحظة الراهنة وحدود الحياة الفانية.
- ضعف التدبر والتذكرة واستحضار هادم اللذات .. الموت.
- طول الأمل، والتسويف الذي يعمل عمل مخدر للضمير والهمة!
- فقدان البوصلة والتشتت وفقدان الشغف.
- فقدان الأهداف القصيرة المدى والبعيدة المدى.
- الانهزام لشهوات النفس ومداخل الفتن، وعلائق الدنيا ومطباتها.
- الكيد، من حسد وسحر وما يؤذي االنفس.
- الغفلة التي يديمها ضعف المحاسبة وإهمال الحزم وشعور الرضا عن النفس.
- الجهل بمعرفة النفس البشرة وطرق قيادتها ومن ذلك جهل بعظمة الله جل جلاله وتقديره حق قدره.
- افتقاد نموذج القدوة في المحيط وحتى في الذاكرة.
- الكسل ومسبباته وما يشجع عليه سواء نظام النوم والغذاء أو اللياقة.
- الحزن والأسى والجزع وكل حالة للنفس تصنع فتور الشغف والهمة.
كيف نتخلص من هذا الفتور والتخلف عن ركب المسابقين؟
لا بد من التنبيه إلى أن حالة الفتور، درجات، فمنها الطبيعية في كل نفس، إذ أن الهمة تتحرك كالموج، ترتفع وتنزل، والكيس الفطن يحصد أكبر قدر ممكن من الحسنات والأعمال الصالحة خلال صعودها حتى إذا نزلت كانت استراحة محارب حفظ فيها الحد الأدنى الذي يعد النزول عنه خطا أحمرا.
ثم الفتور الخطير وهو النزول عن هذا الخط الأحمر .. واستمرار هذا النزول حتى يتحول لحالة مزمنة يصعب الخروج منها. وأخطر ما فيها هو ولوج المعاصي والظلم والخوض فيما حرمه الله عز وجل.
ولذلك يجب استدراك النفس قبل السقوط في المرحلة المهلكة، ويكون ذلك بمبدأ الوقاية خير من العلاج والحذر من موجبات الفتور والتحصن بما يعزز قوى الثبات والارتقاء.
والحديث النبوي يلخص الحالتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ» (مسند أحمد).
فالفتور قد يكون فتور الاقتصاد، وهذا لا مفر منه يحدث ولا بد ولكن يستعان عليه بالمجاهدة والتقوى، أو فتور الظلم للنفس المهلك، وهو يتطلب تحصينا وتوبة نصوحا، ومن لم يعالج فتور الاقتصاد ويتنبه له يقع في فتور االظلم للنفس والله المستعان.
(اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).
ونبدأ بتلخيص أسباب التخلص من الفتور والتحصن منه:
الأسباب والتحصن منها
- الدعاء .. أول خطوة في ملحمة الارتقاء، استحضار أن لا حول ولا قوة لنا إلا بالله تعالى .. وإنه لمقام لـ{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وهذا يعني تحري ساعات ومواطن استجابة الدعاء بـ«اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى شُكْرِكَ، وَذِكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» و«لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» وكل دعاء لسؤال الله تعالى العون والسداد.
- نصاب العلم والذكر الموجب للخشية، ويتأتى بقراءة نافعة وفي هذه تكون المداومة على ورد تدبر للقرآن بتفسير لآياته بفهم السلف الصالح، وقراءة نماذج سيرهم الملهمة، وكل قراءة نافعة تصنع الوعي والفهم وتعلي الهمة، وتوجب تحرك النفس حزنا على حالها مستحضرة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، وهذا النوع من الطلب للعلم يقدم معرفة بعظيم الأجر ويرهب من الحساب العسير وفي ذلك وقود مسيرة لا يفتر!
- القراءة في كتب الرقائق وتزكية النفس ومن ذلك كتب ابن القيم جزاه الله عنا خير الجزاء مثل الداء والدواء (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان- طريق الهجرتين-، مدارج السالكين وحادي الأرواح، والتحفة العراقية والاستقامة لشيخه ابن تيمية، وكذلك مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي وتلبيس إبليس لابن الجوزي وكتاب الترغيب والترهيب للمنذري، وكتاب التخويف من النار لابن رجب والتذكرة للقرطبي وكثير من الكتب مفيدة ومن يبحث في المكتبة الإسلامية يجد بإذن الله وإن كنت أجد في كتب ابن القيم الموسوعة المنشودة وأنصح بكتبه بشدة.
- تحصيل معرفة بعظمة ثروة الوقت وأهميتها ووجوب استثمارها قبل فوات الأوان. وهنا استحضر كلام ابن القيم في مدارج الساكين، وهو يتطلب وقفة استيعاب، حيث يقول في فصل بعنوان “توبة الخواص”: قال:
وتوبة الخواص من تضييع الوقت، فإنه يفضي إلى درك النقيصة، ويطفئ نور المراقبة، ويكدر عين الصحبة. والقصد أن إضاعة الوقت الصحيح يدعو إلى درك النقيصة، إذ صاحب حفظه مترق على درجات الكمال، فإذا أضاعه لم يقف موضعه، بل ينزل إلى درجات من النقص، فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولا بد، فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق، وإما إلى أسفل، إما إلى أمام وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو النار، فمسرع ومبطئ، ومتقدم ومتأخر، وليس في الطريق واقف البتة، وإنما يتخالفون في جهة المسير، وفي السرعة والبطء “إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر” ولم يذكر واقفا، إذ لا منزل بين الجنة والنار، ولا طريق لسالك إلى غير الدارين البتة، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة .
فإن قلت: كل مجد في طلب شيء لا بد أن يعرض له وقفة وفتور، ثم ينهض إلى طلبه
قلت: لا بد من ذلك، ولكن صاحب الوقفة له حالان: إما أن يقف ليجم نفسه، ويعدها للسير، فهذا وقفته سير، ولا تضره الوقفة، فإن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة .
وإما أن يقف لداع دعاه من ورائه، وجاذب جذبه من خلفه، فإن أجابه أخره ولا بد، فإن تداركه الله برحمته، وأطلعه على سبق الركب له وعلى تأخره، نهض نهضة الغضبان الآسف على الانقطاع، ووثب وجمز واشتد سعيا ليلحق الركب، وإن استمر مع داعي التأخر، وأصغى إليه لم يرض برده إلى حالته الأولى من الغفلة، وإجابة داعي الهوى، حتى يرده إلى أسوأ منها وأنزل دركا، وهو بمنزلة النكسة الشديدة عقيب الإبلال من المرض، فإنها أخطر منه وأصعب .
وبالجملة فإن تدارك الله سبحانه وتعالى هذا العبد بجذبة منه من يد عدوه وتخليصه، وإلا فهو في تأخر إلى الممات، راجع القهقرى، ناكص على عقبيه، أو مول ظهره، ولا قوة إلا بالله، والمعصوم من عصمه الله.
وقوله : ويطفئ نور المراقبة، يعني أن المراقبة تعطي نورا كاشفا لحقائق المعرفة والعبودية، وإضاعة الوقت تغطي ذلك النور، وتكدر عين الصحبة مع الله، فإن صاحب الوقت مع صحبة الله، وله مع الله معية خاصة، بحسب حفظه وقته مع الله، فإن كان مع الله كان الله معه، فإذا أضاع وقته كدر عين هذه المعية الخاصة، وتعرض لقطع هذه الصحبة، فلا شيء أضر على العارف بالله من إضاعة وقته مع الله، ويخشى عليه إن لم يتداركه بالرجوع أن تستمر الإضاعة إلى يوم القيامة، فتكون حسرته وندامته أعظم من حسرة غيره وندامته، وحجابه عن الله أشد من حجاب من سواه، ويكون حاله شبيها بحال قوم يؤمر بهم إلى الجنة، حتى إذا عاينوها وشاهدوا ما فيها، صرفت وجوههم عنها إلى النار، فإذن توبة الخواص تكون من تضييع أوقاتهم مع الله التي تدعو إلى هذه الأمور.
(مدارج السالكين ج1 صفحة 278-279) .
- تسطير برنامج للعبادة يراعي طاقة النفس ويستند لقاعدتين مهمتين في حياة المؤمن: قليل دائم خير من كثير منقطع، وما لا يدرك كله لا يترك جله. وأخذ النفس باليسير يسهل قيادتها، وفي الحديث:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وعندها امرأة، فقال: «مَنْ هَذِهِ؟» قَالَتْ: فُلَانَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا. فقال صلى الله عليه وسلم: «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا» (صحيح البخاري). – وفي حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» (صحيح البخاري).
- الحرص بحزم على ورد للذكر هو مصيري في كل يوم، لا بد أن يخصص له وقته وأداؤه بحضور قلب وانكسار لله عز وجل. فذاك هو الزاد!
- التعامل ببصيرة مع الوسط المثبط وإعادة ترتيب التعاملات والعلاقات بالابتعاد عن كل علاقة مثبطة وتخفيف التعامل مع ضعيفة الهمة والتحرر من سطوة الشللية والصحبة الجماعية التي تفرض توجه المسلم الذي يشغله عن معالي الأمور وميادين المسابقة، وتخصيص وقت للعزلة، وللتزود وللخبيئة، والصبر على أسرة مؤذية وقاسية واحتساب الصبر على الابتلاء فتلك عبادة أخرى جليلة.
- الحذر من الذنوب ومن ذلك الابتعاد عما يضعف النفس كسماع الموسيقى ومشاهدة الصور المحرمة وقراءة الروايات الهابطة، أو الانغماس في مسلسلات وأنمي مضلل، وكل مشاهدة تنهب من المرء أغلى ما يملكه وتتركه جثة هامدة بلا نفع لنفسه أو لغيره. بل ضررها أكبر. وفي الحديث
- «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ» (مسند أحمد). فلا تكن فترتك في معصية وما يوجب حرمانك المعية والتوفيق!
- الحذر من الظلم والاستهانة بتضييع حقوق العباد، فهي من أكثر ما يخذل المرء به نفسه! لا يستهن تقي بأذية وعدوان وحق مهمل يقع على عاتقه أداؤه، وليتذكر أنه يتعامل مع الله جل جلاله. وأن حقوق العباد لا تسقط فلينظف صحيفته قبل يوم حساب عسير.
- الحرص على التوبة ومداومة الاستغفار في كل يوم، في كل صباح وليل، حتى يلقى العبد ربه تائبا، إن كان على موعد مع الموت.
- الخروج من مشاهد التعلق بالدنيا ومراقبة الناس والانشغال بهم إلى ما يذكر بالموت وفناء الدنيا، والنظر في المسنين والذين تقدم بهم العمر، ثم التأمل في التاريخ ونهاية الإنسان. والخوف من سوء خاتمة مهلك. وأنصح بكتابي: حقيقة الموت وصفحات من دفتر الالتزام.
- الحرص على الأعمال التي تصنع في النفس سعادة وفي الحركة بركة وفي صفحات العبد حسنات ورقي درجات. والحرص على التنوع في العبادات، فيكون للمرء في كل نوع اجتهاد وسعي، كنصرة المستضعفين، واتباع الجنائز، كالصدقات، وأبواب الإحسان، كالتطوع والإصلاح وما يطرد السأم من نفس الإنسان ويسقط كل حجة ملل، فأبواب الخير والبر كثيرة متعددة، والبصير من حرص على النهل من كل حقل وفضل، في كل يوم وكل موسم، ليتنقل بين الأبواب والحقول. ليكن من ذوي الأيدي والأبصار، وليفكر بمحبة وخشية ورجاء كيف ينال سهما في كل نوع من العبادات، فمما يستشعره المرء في هذه السبيل أنها عبادات تعضد بعضها البعض وتوجب قوة القلب وسكينته، فسبحان من جعل التأييد في التزام الاستقامة.
- الحرص على اقتحام ميادين المراغمة والجهاد في سبيل الله تعالى خاصة في زماننا، فميادين التدافع منتشرة وممتدة والسعيد من دخلها فارسا أبيا لإعلاء كلمة الله تعالى وإبقاء معالم الحق ظاهرة بارزة ونصرة دين الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم:
- «عليكم بالجِهادِ في سبيلِ اللهِ، فإنَّهُ بابٌ من أبوابِ الجنةِ، يُذهِبُ اللهُ بهِ الهَمَّ والغَمَّ» (صحيح الجامع).
- تعويد النفس على محاسبتها كل يوم، ماذا فعلت؟ وماذا يجب أن أفعل غدا، يجب تهيئة النفس للمهام والحزم معها في تحقيقها بإخلاص النية لله تعالى واستيعاب حقيقة أن المسلم يفعلها ليعذر أمام ربه لا يرجو علوا في الأرض. وهذه المحاسبة عبادة وحزام أمان وأهم سبب في الثبات والمسابقة. قال الفضيل بن عياض لرجل:
- “كم عمرك؟ فقال الرجل: ستون سنة، قال الفضيل: إذًا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله تُوشِك أن تَصِل، فقال الرجل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فقال الفضيل: يا أخي، هل عرفتَ معناه، قال الرجل: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع، فقال الفضيل: يا أخي، مَن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، عرف أنه موقوف بين يديه، ومَن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومَن عرف أنه مسؤول فليُعدَّ للسؤال جوابًا،… “(حلية الأولياء). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
- “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا”. وقال رضي الله عنه:
- “حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن شغلته حياته، وألهته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة”.
- الحذر بشدة من أمراض القلوب وبحث مراجع تلخصها وتقدم أساليب الحصانة وفي مقدمتها، العجب والكبر والغرور والحسد والأنانية. قال ابن رجب رحمه الله:
- “ولم يكن أكثر تطوّع النبي صلى الله عليه وسلم وخواص أصحابه بكثرة الصوم والصلاة، بل ببر القلوب وطهارتها وسلامتها وقوة تعلقها بالله؛ خشيةً له، ومحبةً، وإجلالاً، وتعظيماً، ورغبة فيما عنده، وزهداً فيما يفنى ورغبة فيما يبقى”. [لطائف المعارف/ 479]
- اتباع نظام حياتي زاهد يحفظ للضروريات موقعها ولا يتعلق بالكماليات، يكتفي بما يحتاجه في مطعمه وملبسه وتفاصيل حياته، ويتوقف عن التبذخ وإن كان مقتدرا، فيمكنه أن يضع ما زاد عن حاجته في مشاريع عمل ورفع لبنات قصره في الجنة، بالسعي في إقامة شعائر الله وبنيان الإسلام في الأرض ولو بصدقة لفقير! وليتذكر دوما أن مراتب الآخرة يسابق لها بما في القلوب وصحائف الأعمال لا ما يتسابق عليه الناس في الدنيا، فليحرص على مقاييس الإسلام وما يجعل عمله متقبلا بإخلاص لله واتباع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ليحرص على سلامة قلب وعمله وليتذكر أنه يسير إلى الله بهذا القلب!
- التواصي بعبادة حمد الله والشكر، وتقدير الله عز وجل حق قدره في كل لحظة تفكر واستراحة وعبادة وسكون وحركة، قال تعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، وأعظم عبادة الهداية للإيمان. وهي تزيد بالتفكر والحمد.
- البحث عن نماذج ملهمة وقدوات وإن لم توجد في الواقع فهي توجد في سير السابقين والعلماء والمجاهدين. ومخالطة الأبرار، تصنع قوة في الهمة. لا تحرم نفسك قدوة توقد همتك .. ويا حبذا من السابقين الأولين.
- تذكر حقيقة الوجود لم نخلق عبثا! وفي ذلك دافع للعمل قبل أن يحل الموت الذي يحل فجأة! فلا تفتر النفس عن السعي ولو في قلب حرب أو دعة! ولو في يدك فسيلة والوقت وقت الساعة، وتذكر هناك من يسابق بقوة، لم يزل إلى مولاه في شوق وسعي ووجل!
- الحرص على الحلال وعدم ولوج الحرام سواء في مال أو في طعام، سواء في علاقة أو معاملة، فإن تعدي حدود الله تعالى عظيم! قال الله عز وجل:
- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ولتتأدب النفس بقول الله عز وجل {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}
- العناية بلياقة الجسم وما يصنع نشاطه بتنظيم ساعات النوم وتناول وجبات صحية وعدم الإكثار مما يجلب الخمول، والحرص على حركة الجسم ونشاطه برياضة يومية ولو كانت بالمشي ليتخلص الجسم من الكسل. ولا يعني ذلك هوس برامج التربية البدنية بل يعني الحركة وعدم إهمال الأسباب الصحية. ويمكن الاستعانة بما يقوي الجسد من عادات غذائية كما في الطب النبوي أو مقويات وفيتامينات، تعينه على المجاهدة في كبد!
- تذكر أن الله ينظر إليك، ينظر لقلبك وعملك، استشعر هذا الأمر كلما خمدت همتك .. الله ينظر إليك!!! كيف ستفعل كيف ستتجاوب! كيف سيكون مشهدك! تأدب بالحياء! تأدب بالصدق والأمانة بالكرم والشجاعة … بمنظومة الأخلاق البهية.
- لتكن لك مطالب جليلة وسامية، حدث نفسك عن الشهادة في سبيل الله تعالى، عن كل مرتبة سبق عند الله عز وجل. انظر للسماء اسأل الله من فضله العظيم انكسر لمولاك واستجدي الاصطفاء والقبول! قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
- “أقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى، هو الإفلاس؛ فلا يرى لنفسه حالًا، ولا مقامًا، ولا سببًا يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف، والافلاس المحض، دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه، حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع، وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل، وكمال فاقته، وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة، والباطنة فاقة تامة، وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك، وخسر خسارة لا تجبر، إلا أن يعود الله تعالى عليه، ويتداركه برحمته”. [الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم، ص7-8].
- ابحث لنفسك عن موطئ قدم لا تبقى فارغا، ولو لم تجد فاستغفر الله لا تتعطل حواسك عن عبادة الله! ستجد لنفسك موقعا تنفع به نفسك وأمتك، وحين تصدق في البحث لمرضاة ربك، سيهديك الله سبله ويستعملك. ثم اقترب من ميادين السعي والعمل واهجر ميادين اللهو والمماطلة.
- عليك العناية بحالة القلب لا كثرة العمل، فأينما فتح الله عليك توكل على الله تعالى وأنجز بقدر طاقتك ولا تنظر في غيرك إلا من حيث سبق الجنة! في مراتبها، فهناك يغبطون وهناك يسابقون. ولا تحقر عملك .. كل حسنة عزيزة وعزيزة جدا!
- التنظيم وهو روح الإنجاز، فتسطير الأهداف والمهام ولو كتبت في دفتر أو دونت في ذاكرة، تساعد كثيرا في تحقيق حد من الإنجاز مبشر موجب للثبات والاستمرارية. ويجب عدم الاستهانة بأي مهمة فيه ولو كانت إماطة أذى عن طريق فأنت تتعامل مع الله جل جلاله ترجو رحمته وقبوله! ويدخل في ذلك التدرج في اختيار المهام، بحيث تنجز السهلة بداية لتتفرغ للأصعب، وهكذا لذة الإنجاز تتحول لوقود يسهل مهمتك في الأصعب. والأهم لا يمر عليك يوم بدون عمل صالح وإلا فلا تحسبه في حياتك.
- في حالات الكيد من حسد وسحر فيجب الاستعانة بالله تعالى والحرص التام على الأذكار وتحصين النفس بها وبتعظيم التوكل على الله تعالى وعدم التقوقع في تفكير السجن! سجن فكرة الكيد، بل تجاهلها والمضي قدما مرددا ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [ التوبة: 51] يكسر أغلالها!
- الحزن والأسى وغيره من حالات النفس يصنع العجز فلابد من الاستعانة بالله تعالى والحذر من خسران سعيك للآخرة، فليست الدنيا مبتغاك والابتلاء فيها لرفعك فلا تبتئس وتمسك بحبل الله لا تحزن. وأنصح بمقالات:
وفي الختام
هذا غيض من فيض، واعلم أن السير إلى الله طريق يتطلب قلبا نابضا، بوصال لا ينهزم، فكن المجاهد الأبي ولا تسمح لشيء أن يؤخرك أو يجعلك من الخوالف، لا تسابق وفق مقاييس الدنيا بل وفق مقاييس الإسلام العظيم وكأنك ترى منزلتك في الجنة، وأهلها يلوحون لك أن تقدم! وحينها ستدرك أنك تسير نحو منزلة الفوز العظيم .. فهل ستسمح لعقبة أن تثنيك أم ستحلق متحرقا للقاء مهيب! وكيف تتأخر وكل خطوة صدق موجبة للتأييد .. وكيف تتأخر ! هل وجدت في الدنيا ما يستحق التأخير!
سئل الحافظ عبدالغني المقدسي رحمه الله تعالى “عمن كان في زيادة من أحواله، فحصل له نقص؟ فأجاب: أما هذا فيريد المجيب عنه أن يكون من أرباب الأحوال وأصحاب المعاملة، وأنا أشكو إلى الله تقصيري وفتوري عن هذا وأمثاله من أبواب الخير، وأقول، وبالله التوفيق: إن من رزقه الله خيرًا من عمل، أو نور قلب، أو حالة مرضية في جوارحه وبدنه، فليحمد الله عليها، وليجتهد في تقييدها بكمالها، وشكر الله عليها، والحذر عن زوالها بزلة، أو عثرة، ومن فقدها فليكثر من الاسترجاع، ويفزع إلى الاستغفار والاستقالة، والحزن على ما فاته، والتضرع إلى ربه، والرغبة اليه في عودها إليه، فإن عادت، وإلا عاد إليه ثوابها وفضلها إن شاء الله تعالى”.
عمدة الأحكام الكبرى، لعبدالغني المقدسي، (ص:41).
وعن عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قال: إِنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ”. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ”.
(أخرجه مسلم).
اللهم ثباتا في سبيلك وارتقاء يقربنا منك ويوصلنا لمرضاتك سبحانك في الدنيا والآخرة.
اللهم أيدنا بنصرك وبالمؤمنين.