ودّعت منطقة غرب إفريقيا استقلال ممالكها الإسلامية مع زحف جحافل الاحتلال الأوروبي الجشعة لأراضيها، ليسْوَدّ مشهد المنطقة منذ النصف الثاني من القرن التاسع هجري إلى القرن الرابع عشر هجري (الخامس عشر ميلادي إلى القرن العشرين ميلادي).
ومع ذلك عرفت غرب إفريقيا حركتين بارزتين أنارتا تاريخها، الأولى إصلاحية، لتثبّت الناس على دين الإسلام والثانية جهادية لتخرج الغزاة من أرض الإسلام فضلًا عن حركات تحرر محلية أخرى أنِفَت عيش الذلّة والاستعباد فناشدت الاستقلال.
ولا شك أن الاحتكاك بقوات الاحتلال وحجم المعاناة من ممارساتها الإجرامية ولّد رغبة حاسمة في السعي لتوحيد كلمة المسلمين وجهاد المحتلين. ولذلك ازدحم الربع الأخير من القرن الرابع عشر هجري (التاسع عشر ميلادي) بالحروب بين القوى الإسلامية والدول الأوروبية المحتلة.
ويعتبر الصراع في غرب إفريقيا بين الإسلام وأوروبا، امتدادًا للصراع بينهما في الأندلس، بعد رحيل المسلمين إلى إفريقيا فرارًا من حملات الاضطهاد الكبير التي شنّتها الكنيسة الكاثوليكية ضدهم.
وظهرت مع ذلك البرتغال وإسبانيا على أنقاض الأندلس، لتقودان معًا حركة الكشوفات الجغرافية التي نتج عنها احتلال عدة مناطق في آسيا وإفريقيا وأمريكا، يغذيها بلا شك الدافع الديني لمحاربة الإسلام والدافع المادي للسيطرة على طرق التجارة.
يقول المؤرخ العلامة الشيخ عبد الرحمن علي الحجي -رحمه الله-:
ما زلنا نقدِّم ماجلان البرتغالي وفاسكو ديغاما على أنهما مكتشفان جغرافيان، ولو سمع أحدهما بهذا الوصف لاستلقى على قفاه من الضحك على هذا الوهم، إذ لم يكونا سوى محاربَين صليبيين لملاحقة المسلمين في كل مكان.
بداية الحقبة المظلمة للاحتلال الأوروبي
احتل البرتغاليون مدينة سبتة المغربية في عام 818هـ (1415م) وزحفوا بعد ذلك إلى عمق الجنوب الإفريقي، حيث استولوا على رأس أبو خطر وكابو بوخادور في عام 838هـ (1434م) في الصحراء الغربية، واستمروا في تربصهم بغرب إفريقيا حتى تمكنوا في عام 848ه (1444م) من احتلال الرأس الأخضر والسيطرة على مدينة دكار السنغالية.
وبدخول الاحتلال الأوروبي لعمق غرب إفريقيا استولى في عام 864ه (1460م) على سيراليون، التي تحولت لمركز عالمي لتجارة الرقيق، حيث كان الأفارقة يُساقون من وطنهم قسرًا إلى لشبونة عاصمة البرتغال واستمر هذا النزيف البشري حتى عام 1249هـ (1833م) تاريخ إلغاء تجارة الرقيق.
وتمامًا كما احتُلت سيراليون احتُلت غانا والجزر المقابلة لها في عام 875ه (1471م)، حيث وقع المحتلون على ثروة الذهب الثمينة فاستولوا عليها واحتكروا تجارتها، وأطلقوا اسم ساحل الذهب على المنطقة. لكن مثل هذه الثروة لم تكن لتبقى في أيدي البرتغاليين لوحدهم فقد نافسهم عليها الفرنسيون والبريطانيون والهولنديون.
وكشّر الفرنسيون عن أنيابهم وأخذوا في الزحف لعمق القارة الإفريقية وبدأوا بالتوغل منذ بداية القرن الحادي عشر هجري (السابع عشر ميلادي)، وليوطدوا أركان احتلالهم أرسوا في المناطق المحتلة قواعدهم ومراكزهم التي كان من أبرزها قاعدة سان لوي التي تم بناؤها في عام 1069هـ (1659م).
ولم يلبث أن ينتهي النصف الأول من القرن الثالث عشر هجري (التاسع عشر ميلادي) حتى تحولت معظم سواحل إفريقيا ومجاري أنهارها إلى قبضة الاحتلال الفرنسي والبريطاني والبرتغالي، تُنهب ثرواتها وتُستعبد شعوبها وتُطمس معالم القوة والحضارة فيها.
ومما لا شك فيه أن قلوب المحتلين لم تكن على قلب رجل واحد، قال تعالى (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ) (الحشر: 14). فقد أضمرت كل دولة أوروبية الشر للأخرى، ولم تجمعهم إلا المصالح في تقاسم المنطقة، مما ولّد صراعًا كان من مخرجاته، مؤتمر برلين في صفر 1302هـ (تشرين الثاني 1884م) ورجب 1303هـ (شباط 1885م).
مؤتمر برلين عن غرب إفريقيا
تدافعت أطماع الأوروبيين في الأراضي الإفريقية واضطرت البرتغال لعقد مؤتمر دولي، لتضمن سيطرتها على حوض الكونغو، واستغلت بقية الدول الأوروبية الفرصة لتقسيم القارة بينها كما يُقسم ميراث الميّت، فلم يكن للأفارقة أدنى اعتبار ولم يذكروا ولا حتى كما يذكر الميّت. وهكذا قسّم من لا يملك البلدان الإفريقية على المحتلين.
وحضر مؤتمر النهب 14 دولة، منها دول الاحتلال لغرب إفريقيا وهي بريطانيا وفرنسا والبرتغال وبلجيكا وألمانيا، ودول أخرى شاركت رمزيًا وهي النمسا والدنمارك وإسبانيا وإيطاليا وروسيا والسويد والنرويج والدولة العثمانية والولايات المتحدة. والغائب كان الشعب الإفريقي صاحب الملك!
وهكذا تقاسمت كل من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا غرب إفريقيا وتحولت حدود مناطق كل دولة إلى حدود رسمية أقيمت على أساسها العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وبقيت غرب إفريقيا تعاني من تداعيات مؤتمر برلين إلى اليوم حيث لا تزال هناك نزاعات على الحدود والثروات والحقوق بين الدول.
المقاومة المحلية تواجه الاحتلال
لم يلق الأفارقة الجيوش الغازية بالورود، بل استقبلوهم بالمقاومة والجهاد، بعض قصصها لا تزال مضرب الأمثال إلى اليوم. ويسجل التاريخ أول سيطرة بريطانية في مجرى النيجر، عام 1303هـ (1885م) في المنطقة الواقعة بين لاغوس والكاميرون، زحف على إثرها البريطانيون شمالًا إلى مملكة الفولانيين الإسلامية، فتصدى لهم المسلمون تصديًا بطوليًا واندلعت الحرب بين الطرفين في عام 1311هـ (1893م).
وبنفس دوافع الجشع، أقامت فرنسا سيطرات لها في ساحل العاج وغينيا الاستوائية وداهومي التي تعرف اليوم ببنين، في أوائل القرن الرابع عشر هجري (العشرين ميلادي). وتوسع الاحتلال الفرنسي في حوض نهر السنغال. ولكنه واجه مقاومة شرسة، حيث اندلعت مواجهة أخرى بين القوات الفرنسية وقوات مملكة التوكولور بقيادة شيخو نجل الحاج عمر الفوتي، زعيم الطريقة التيجانية في غرب القارة. واشتدت الاشتباكات بين الطرفين وبلغت ذروتها إلى أن انهارت مملكة شيخو وسيطر الفرنسيون على وادي النيجر الأعلى وباماكو في مالي في عام 1301هـ (1883م).
مقاومة أخرى عنيفة رائدة سجلها التاريخ ضد الفرنسيين على يد القائد المسلم ساموري توري، أحد أبرز القادة المجاهدين من قبيلة الماندينغ، والذي نجح في توحيد القبائل في المنطقة الممتدة ما بين حوض نهري الفوتا العليا والنيجر في عام 1287هـ (1870م) فشن الغارات تلو الغارات على القوات الفرنسية، حتى أضحى كابوسها في المنطقة وأقام مملكته الإسلامية وارتفع ذكر بطولاته وأمجاده.
ورغم ضخ فرنسا لجميع أسباب القوة والمكر وتمكنها من الاستيلاء على معظم مناطق ساموري في عام 1309هـ (1891م)، إلا أنها لم تتمكن من الوصول إليه إلا في عام 1316هـ (1898م) على إثر الخيانات.
مقاومة أخرى سجلها التاريخ لرد عدوان الفرنسيين عند احتلالهم لمدينتي تمبكتو وساي في عام 1312ه (1894م) في سلطان مملكة سوكوتو الإسلامية، حيث امتد الصراع لسنوات من الكفاح والجهاد ضد القوى المحتلة حتى سقطت سوكوتو في عام 1321هـ (1903م). وبتمكن فرنسا من إحكام قبضتها على غرب القارة ووسطها، أعلنت تأسيس إفريقيا الفرنسية الغربية وإفريقيا الفرنسية الاستوائية.
وتزامن مع هذا الاحتلال الفرنسي، منافسة حادة مع الجيران الأوروبيين، مما دفع فرنسا للمراوحة بين أسلوبين، إما بعقد معاهدات وإبرام اتفاقيات مع زعماء المنطقة لبسط نفوذها بحجة الحماية، أو بالتهديد والوعيد، فيرضخ السكان لاحتلالها. وبعد أن ضمنت فرنسا إحكام قبضتها على هذه المناطق، دعت منافسيها الأوروبيين لإبرام المعاهدات لحفظ مساحات الاحتلال، وهذا ما يفسر لماذا شهد الربع الأخير من 13 هجري (19 ميلادي) سلسلة من المعاهدات لتقسيم ممتلكات الأفارقة وأراضيهم على هذه الدول الأجنبية.
الاحتلال ينشر التنصير
من أبرز ما ميّز الاحتلال الأوروبي في التاريخ هو استجلابه لحملات التنصير التي تدخل البلاد المحتلة وتحاول فرض النصرانية دينًا على الشعوب بشتى الوسائل الممكنة، بعد سعي حثيث لهدم ثقافة هذه الشعوب وتراثها، ولذلك عرفت غرب إفريقيا منذ دخول الاحتلال الأوروبي إلى أيام الحرب العالمية الأولى اصطدامًا حادًا بين المسلمين والنصارى لا تزال آثاره إلى اليوم.
وبرز خلال هذا الصراع، دور حركات المقاومة والجهاد في حفظ الدين الإسلامي ومواجهة كيد التبديل الذي ساقته فرنسا على يد التنصير.
وقد أكدت إرساليات التنصير على عكس ما يُروّج له المحتل، أن وجود القوات الأوروبية في غرب إفريقيا لم يكن إلا لمحو الهوية الإفريقية المسلمة، ولنشر الثقافة الفرنسية طوعًا أو قسرًا، وبدل إعمار الأرض وإثرائها، نهبت قوات الاحتلال خيرات الشعوب، وتحكمت في اقتصاد الأفارقة واستغلته أبشع استغلال لصالحها كما حاربت التعليم وشجعت نشر التخلف والجهل والنعرات القبلية والخلافات وفق سياسة “فرق تسد”. كل ذلك بهدف صناعة ولاءات للغرب لا للإسلام ومحاصرة هذه الشعوب بكل معوّقات النهوض.
ونشطت البعثات التنصيرية الغنيّة بالوسائل المادية والإعلامية تحت رعاية حكوماتها القوية بشكل محموم في القارة بالتوازي مع العمل على إعاقة الدعوة للإسلام وهدم تراث المسلمين.
وأصبح الإفريقي الذي يعتنق البروتستانتية والكاثوليكية محط اهتمام خاص وترحيب ورعاية. وقد دخل المنصرون الكاثوليك إفريقيا منذ القرن التاسع هجري (15 ميلادي)، أثناء الكشوفات البرتغالية والإسبانية، بينما دخل المنصرون البروتستانت القارة في أواخر القرن 11هـ وبداية القرن 12هـ، (القرن 17 وبداية القرن 18 ميلادي).
وبلغة الأرقام سُجِّل للكنيسة الكاثوليكية في غرب إفريقيا في عام 1396هـ (1976م) حوالي مليون ونصف مليون كنيسة، بينما بلغ مجموع الإرساليات النصرانية المتواجدة في 38 بلدًا إفريقيًا، 111 ألف إرسالية، بعضها مزوّد بطائرات وطاقم من الأطباء والممرضين للوصول إلى المرضى في كل مكان. وهكذا كانت تُستغل حاجات الشعوب لصالح التنصير.
وبلغ عدد المحطات الإذاعية لإرساليات التنصير في غرب القارة في عام 1416هـ (1996م)، 52 محطة إذاعية بينما في المقابل كان للمسلمين محطة واحدة. وبلغ عدد المستوصفات والمستشفيات التي أقامتها الإرساليات التنصيرية 1600 مؤسسة صحية تحت إدارة مباشرة من القساوسة والرهبان.
وهذا ما يفسر قرار 14 بلدًا إفريقيًا في عام 1400هـ (1980م)، بمنع دخول القساوسة والرهبان المنصرين إلا أنه في عام 1419هـ (1999م) لم يبق من يمنع دخولهم سوى 3 دول فقط.[1]
ولم يكتف الاحتلال بنشر المدارس النصرانية وحظر المدارس الإسلامية والكتاتيب بل روّج أيضًا للمدارس اللادينية، ليفتح الباب واسعًا أمام تفشي أمراض الميوعة والإلحاد والانحلال بين طبقات المجتمع، ويدخل في ذلك نشر ثقافة السخرية وازدراء مقومات الشعوب ومقدساتها الإسلامية، لتصبح القدوة في أعينهم هي أوروبا لا الإسلام.
وأعلن أول ملك إفريقي اعتناقه للنصرانية في عام 896 هـ (1491م) وهو ملك الكونغو الذي مات بعد تنصّره مباشرة، وخلفه ابنه فعمّدته إحدى الإرساليات التنصيرية باسم ألفونسو وزوّجته واحدة من بناتها. ولم تكن النصرانية تطلب من المعتنقين التنازل عن معتقداتهم الوثنية ففي عام 1061هـ (1651م) تنصّر ملك الموزمبيق، مونوموتابا، وقد دعمه النصارى وأغدقوا عليه الأموال بل وشجعوه على استخدام الأرواح التي كان يعتقد بها في الوثنية.
ولابد أن التنافس بين الكاثوليك والبروتستانت قد ألقى بظلاله على القارة، حيث سجّل التاريخ في عام 1075م (1665م)، هجمة بروتستانتية هولندية على ساحل جنوب إفريقيا فقامت بتدمير جميع المؤسسات والكنائس والإرساليات البرتغالية وسيطرت على رأس الرجاء الصالح، وملك البلاد أول قسيس بروتستانتي لم يقبل له منافسًا في المنطقة.
ورغم ذلك بقيت الوثنية سائدة في مناطق كثيرة في إفريقيا، وبقي الإسلام الدين الوحيد الذي يطهّر نفوس الناس من الشرك وعبادة الأحجار والأمطار والأنهار والجن، ويوجههم لعبادة الله الأحد الصمد بإخلاص. ولذلك بقيت النصرانية لاضطراب دعاويها وتناقضاتها، محصورة ومحاصرة في بقع محدودة للغاية كما لم يحقق التنصير أي نجاح خلال تلك الفترة، ولم يكن لها أثر في الساحل إلا نادرًا.
لكن لم ينطلق القرن العشرين إلا وكانت النصرانية قد حظيت بتواجد لافت بشتى مذاهبها ومللها وكنائسها بفضل حجم الدعم والتخطيط الذي حظيت به إرساليات التنصير ولتركيزها على الوثنيين في محاولة لمواجهة المسلمين. ومما يجدر الإشارة إليه أن الاحتلال الأوروبي لم يشهد التصادم في سواحل غرب إفريقيا لكنه حين تقدم لعمق البلاد، حيث يسيطر المسلمون، انطلقت مرحلة الصراع والمواجهة واصطدم بمقاومة عنيفة.
ولذلك تمكن التنصير من الدول الساحلية، حيث انتشر في نيجيريا وبنين وساحل العاج وليبيريا وسيراليون وغينيا والسنغال، وحوّل البروتستانت منطقة ليبيريا لمركز لبعثاتهم للتنصير بينما بقي الإسلام شامخًا في الداخل.
وقد رفضت بعض القبائل الغرب إفريقية بشكل صارم الدعاوى النصرانية كما سجل التاريخ مع قبائل أشانتي، التابعة لساحل العاج، حيث هددت الإرساليات التنصيرية باحتجازها لقسيسين رهينة، مقابل إجلاء النصارى من أراضيها، فتحققت مطالبها. بينما تهاوت قبائل أخرى للإغراءات الأوروبية فتنصّرت، كما كان حال قبائل فانتي في ساحل الذهب. وكان المقابل المغري للتنصير، الأموال والمناصب الرفيعة والوجاهة الاجتماعية، وبفضل ذلك تمكن النصارى من تحقيق مآربهم في نيجيريا، التي تحولت لمركز للتنصير في القارة.
الإسلام العقبة أمام التنصير
وجدت حملات التنصير الأوروبية عقبة كؤود، هي الإسلام الذي تجذر في المنطقة، بحضارته المزدهرة وتوحيده الراسخ، وانتشار اللغة العربية، فدرس المحتلون معالم القوة والضعف، ورسموا خططهم وفق ذلك لتجاوز هذه العقبة التي تهدد بإجهاض أطماعهم في غرب إفريقيا.
يقول واطسون في مقال نشرته مجلة العالم الإسلامي الإنجليزية تحت عنوان العالم الإسلامي:
إن المواقف في أفريقيا صارت حربًا بسبب سرعة تقدم الإسلام من مركزه الواسع في الشمال ومعاقله التي في السواحل إلى الجنوب والغرب الإفريقي، والمبشرون كانوا قد أخطأوا في تقديراتهم السابقة لأنه تبين لهم فيما بعد أن بعض البلاد التي كانوا يحسبونها خالية من الأديان المعروفة هي إما إسلامية وإما أنها على هبة الدخول في الإسلام[2].
ورغم ما تميزت به هذه الحملات من قوة التمويل والدعم إلا أنها عجزت أمام المسلمين على قلة ذات اليد. والسبب يرجع لمطابقة الإسلام لفطرة الإنسانية، وتمسك المسلمين به ودفاعهم عنه دون الحاجة لشراء ذممهم بالإغراءات أو تضليلهم بالانحرافات.
يقول آدم عبد الله الآلوري في كتابه الإسلام في نيجيريا ص 149: “ولما جاء المستعمرون والمبشرون غاظهم كل الغيظ أن يلتقوا في غرب إفريقيا ليس دينًا متمكنًا في النفوس فحسب، ولكنه قوة حاكمة، ودولة قائمة، فلبسوا للمسلمين جلود النمر، وصلتوا عليهم سيوف المكر، وشمروا عن ساعدهم في سبيل القضاء على آثار الإسلام بكل جائز ومستحيل حتى ضربوا الثقافة العربية بثقافتهم الإفرنجية، وهدموا بنيان علماء الإسلام بمعارك قساوسة الصليب، وبدلوا الشريعة بالقانون، وطاردوا الفقهاء من الدواوين، وأحلوا لحلهم المحامين، وأغروا طلاب اللغة العربية بتعلم اللغة الإنجليزية والفرنسية، حيث تغلغلوا في القرى والأرياف، واقتنصوا أبناء الفلاحين، وأغروهم بالأموال، وأرسلوا من آمن بالصليب منهم إلى أوروبا ليكملوا بها علومهم وليرجعوا إلى بلادهم زعماء معتبرين لدى الخاص والعام، فلا جرم أن يحارب الاستعمار التعليم العربي بالتعليم الغربي بغية تحويل المسلمين عن دينهم أو تسميم مناهج التعليم الغربي، نفسه عليهم حتى يصبح المسلمون أنفسهم معادين للإسلام وثقافته فترسخ أقدام المستعمرين في بلاد الإسلام وتشييد النصرانية على أنقاض الإسلام”.
وبينما كان هذا إشارة لمكر الاحتلال في غرب إفريقيا يجدر تسليط الضوء على جهود التنصير التي جاءت غالبًا في إطار الأعمال الإنسانية، التي لا يرتاب منها الناس عادة، فتقديم خدمات العلاج والمساعدات المادية وإنشاء مراكز الخدمة الاجتماعية والمؤسسات التعليمية، من مستوى الحضانة للمعاهد العليا ونحو ذلك، يسمح بتغلغل هذه المؤسسات بين الشعوب والتأثير فيهم بشكل ناعم ولكنه خطير. وبذلك كانت إفريقيا تعيش بين حربين، حرب عسكرية بالأسلحة وحرب عقدية بالتنصير.
وسجّل التاريخ أبشع الوسائل للتنصير، فانتشرت الأفكار الغربية في الأخلاق والسلوك والأزياء وكل ما يدور في فلك اهتمامات الناس. ولتتهيأ الساحة لتشرّب أفكار التنصير، عمد المحتلون لإذكاء النعرات القبلية والخلافات المذهبية بين المسلمين، وبينما تم حرمانهم من الوصول لمناصب التأثير في الحكم. كانت حملات التنصير تحظى بقواعد مزودة بكافة احتياجاتها، ويدخل في ذلك توفير القساوسة الأفارقة.
ثم عمد المحتلون لتطبيق تعتيم على الإحصائيات الحقيقية لعدد المسلمين والنصارى تحت حكمهم، ولذلك يتم تداول إحصائيات مزورة، فبوركينا فاسو ذات أغلبية مسلمة ومع ذلك تتعامل معهم الحكومة كأقلية. وبما أن الأجهزة الإعلامية تحت سيطرة المحتل فلنا أن نتخيل طبيعة البرمجة الإعلامية التي يتم الترويج لها، في التلفاز والإذاعات ودرجة عناية المحتلين باللغات المحلية والترجمات.
ومع ذلك أخفق التنصير في مالي وموريتانيا بشكل ذريع، لكنه بدل أن يبدّل للناس دينهم صنع نماذج عقدية فاسدة أو مضطربة تزعزعت قيم أصحابها الإسلامية، واهتمت بالماديات على حساب التربية الإسلامية.
الحركات الإصلاحية والجهادية
برزت في غرب إفريقيا حركات إصلاحية وجهادية منذ القرن 12هـ والقرن 13 هـ (القرن 18 والقرن 19م)، وكان هدفها تطهير المجتمعات المسلمة من شوائب المعتقدات الوثنية، وترسيخ الإيمان في قلوب الناس، وطرد الغزاة المحتلين والتصدي لعدوانهم.
وأبرز هذه الحركات التي كان لها الدور المصيري في غرب إفريقيا، خمس حركات وهي:
- حركة الشيخ عثمان بن فودي.
- حركة الحاج عمر الفوتي التكروري.
- حركة الإمام ساموري توري.
- حركتا المجاهدين كراموك أليف با وإبراهيم سور باري.
- حركة الشيخ أحمد لوبو.
حركة الشيخ عثمان فودي الفولاني
كان مركز هذه الحركة في بلاد الهوسا، يقودها الشيخ عثمان بن محمد الفولاني الملقب ابن فودي وفودي بلغة الفولانيين تعني الفقيه، وانطلق نشاط هذه الحركة في بلدة ماراتا، بولاية غوبر، وتقع حاليًا في ولاية سوكوتو بنيجيريا، وتتلمذ الشيخ عثمان على مذهب الإمام مالك وحفظ القرآن الكريم على يد والده، الشيخ محمد فودي، وكان لافتًا للنظر أن تتلمذ الشيخ على يد والدته حواء وجدته رقية وكان يفخر بذلك.
وهاجر الشيخ إلى بلدة غودو في عام 1219ه (1804م) ولا يزال يوم 21 شباط-فبراير في هذا العام عيدًا وطنيًا لمسلمي النيجر، ويسمونه يوم الهجرة.
وانطلق الشيخ في الدعوة ونشر المفاهيم والقيم الإسلامية بين الناس في فترة إصلاحية شهدت نشاطًا مكثفًا وهممًا مبهرة، والتف حوله أتباعه، وبعد إعداد واستعداد، تحول الشيخ إلى فترة الجهاد حيث تبايع وأتباعه على جهاد أعداء الله، وبدأت معاركهم الأولى مع حكام الهوسا. واختار الشيخ عثمان أن تكون البداية بإصدار وثيقة أهل السودان، وهي بمثابة إعلان رسمي للجهاد حتى تقام الشريعة الإسلامية في البلاد.
واحتدمت المعارك بين الطرفين وتمكن المسلمون من السيطرة على إمارة كبي، التي تحولت لمركز لهم، وسقطت إمارات الهوسا الواحدة تلو الأخرى في يد حركة عثمان الجهادية. وعمد الشيخ لقتال دولة برنو خشية أن تهدد حدوده وتقدم العون لبعض زعماء الهوسا، وبالفعل تمكن من هزيمة برنو في عام 1326هـ (1908م) وذلك في عصر محمد الأمين الكاماني لكن الأخير سرعان ما استجمع قواته وتمكن من ردهم ورغم ذلك تمكن الفولانيون من السيطرة على جزء من مملكة برنو غربًا.
وفتح الله على الشيخ عثمان بتوالي الانتصارات حتى جاء يوم الظفر الكبير، حيث دخل الشيخ وأتباعه عاصمة إمارة غوبر وتسمى الكالاوا، في عام 1223هـ (1808م)، وقتل سلطانها وأنهى بذلك مقاومة الوثنيين.
ولأن السلطان تحول ليد المسلمين، أقبلت القبائل تشهر إسلامها، وبذلك استقوت مملكة الفولانيين، التي مع حلول عام 1225هـ (1810م) تحولت أغلب بلاد الهوسا بفضل جهاد الشيخ عثمان وأتباعه إلى مملكته، فامتدت في شمالي نيجيريا والسودان الغربي، وكانت عاصمتها سوكوتو مركزًا دعويًا هامًا، واستقر الحال بالشيخ عثمان ومملكته فعكف على التصوف والتأليف، حتى توفي في عام 1232هـ (1817م) وقد بلغ ذروة مجده، ليرثه بعد ذلك ابنه، وكان لذريته بطولات ضد الاحتلال الأوروبي، رغم سقوط دولتهم عسكريًا في يد بريطانيا في عام 1321هـ (1903م).
حركة الحاج عمر الفوتي التكروري
تعد هذه الحركة من أبرز حركات غرب إفريقيا، وعلى غرار حركة عثمان، انطلقت هذه الحركة إصلاحية تربوية، وتحولت إلى جهادية تضح مفاهيم الإسلام في مناطق واسعة من نهري السنغال والنيجر.
وولد الحاج عمر في عام 1209ه (1795م) في قرية حلوار على الحدود السنغالية الموريتانية. واتجه إلى الصوفية وتحديدًا الطريقة التيجانية. وخرج في عام 1241هـ (1826م) للحج حيث التقى بعددٍ من علماء الأزهر في مصر، فأخذ منهم المعلومات التي تهدد بلاده، بعد حملة نابليون بونابرت، وأدرك نوايا الاحتلال في الشرق والغرب الإسلامي.
زار الحاج عمر برنو وسوكوتوا مع عثمان فودي. وأقام في فوتا جاولون عند عودته ليتقصى أحوال البلاد. ولقد سعى الحاج عمر لإجهاض الأطماع الأوروبية، ونشر الإسلام، وبالدعوة والإعداد كوّن جيشًا جرارًا التحق به أعداد كبيرة من أبناء فوتا جالون، وغزا الشيخ إمارة البمبارا الوثنية، في منطقة كارتا، فدانت له في عام 1270هـ (1854م)، ثم بالتعاون مع مسينا حاول مهاجمة مملكة سيغو الواقعة في أواسط نهر النيجر.
ولكن ملك مسينا رفض ذلك، فاتجه الحاج عمر إلى الغرب وأغار على منطقة حوض نهر السنغال الأوسط لكن تغلغل الفرنسيين في هذه الجهة بين عامي 1273ه و1275ه، (1857 و1859م)، أوقف تقدم الحاج عمر في هذه البلاد. فاتجه نحو الشرق، ففتح مملكتي سيغو ومسينا ثم استولى على تمبكتو.
وسارت حملات الحاج عمر الواسعة تنشر الدعوة بين الوثنيين، في حوضي النيجر والسنغال، وحقق الكثير من النجاح في الدعوة والسياسة انتهى به الأمر إلى أن أصبح يحكم إمبراطورية تمتد من تمبكتو إلى المحيط الأطلسي، وكانت الطريقة التيجانية هي الحاكمة.
لكن مملكتي سيغو ومسينا ثارتا على الحاج عمر وانتهى أمره بمقتله عام 1280هـ (1864م)، وقتل وهو يناضل لأجل بناء دولته الإسلامية وتمددها عن عمر ناهز 70 سنة. حاول خلالها مقاومة التوسع الفرنسي بكل قوته وورث هذا الحمل خلفه.
وتنازع خلفاؤه على الملك حتى انتهى النزاع بفوز ابنه أحمد الذي حاول التوسع لكن فرنسا تصدت له بقواتها ومكرها فانتهى أمره بهزيمته ووفاته في عام 1315هـ (1898م)، وسهّل موته الطريق للفرنسيين لاحتلال البلاد الواسعة التي حكمها الحاج عمر.
حركة الإمام ساموري توري
ساموري توري من أشهر قادة الجهاد في غرب إفريقيا، لعب دورًا هامًا قبل الاحتلال وبعده واستمر مجاهدًا لأكثر من 40 سنة وحارب الاحتلال الأوروبي في نحو 17 عامًا، حتى اعتقل في عام 1315هـ (1898م) ولكن بعد أن أسس دولة إسلامية كبيرة في منطقة أعالي النيجر.
ولد توري في عام 1251هـ (1836م) في ساننكورو، بالقرب من بلدة بيساندوغو، في وسط ما يسمى اليوم جمهورية غينيا كونكاري. حيث كانت الوثنية سائدة ويتواجد القليل من المسلمين.
تدرب على فنون القتال، وتحالف مع مقاتلي المرابط موري يولي سيس 1268هـ – 1277هـ (1852م- 1861م)، وهو المرابط الذي ظهر في عام 1250هـ (1835م) في مدينة كانكان الواقعة في مرتفعات فوتاجالون، فحرّض الأهالي على الجهاد ضد القبائل الوثنية، لكن دعوته فشلت فقرر إنشاء مجتمع جديد في الصحراء مع رجاله، جنوب تلك المدينة، تحول مع الوقت لقاعدة تدريب وإعداد، ليعلن بعدها الجهاد في عام 1250هـ (1835م)، مكثّفًا غاراته إلى أن تمكن من تأسيس دولة إسلامية في المنطقة جاءت لتسد فراغ مملكتي مالي وصنغاي الإسلاميتين بعد انهيارهما.
نعود لساموري توري، حيث يسجل التاريخ موقفًا لبره بأمه في عام 1268هـ (1852م) بعد أن أسرت في يد قوات ملك بيساندوغو الوثني سوري بيراما، على إثر إغارة هذه القوات على بلدة ساننسكورو حيث كانت تعيش أم ساموري، ففكر الابن البار في طريقة لفك أسرها، فاهتدى إلى أن يعرض على الملك خدمته لمدة 7 سنين مقابل فك أسر أمه، وبالفعل تم له الأمر ثم ما لبث أن فر من جيش الملك في عام 1277هـ (1861م) وتحصن في الجبال يحمل معه خبرات عسكرية وسياسية حصل عليها خلال السبع سنوات في صفوف جيش الملك.
وهكذا ظهر التحالف بين رجال موري يولي سيس وساموري توري في عام 1277هـ (1861م)، وانطلقت مرحلة جمع الرجال وتدريبهم على البنادق التي كان يحضرها ساموري من سيراليون، فذاع صيت هذه القوة الإسلامية وامتد نفوذها في المنطقة وتمكنت من تجاوز كل القوى الأخرى المنافسة وضم جميع الجماعات تحت حكم قائد الإمبراطورية الإسلامية لشعب المالنك.
وبلغت مساحة هذه المملكة الإسلامية حوالي مليون كم مربع. وامتدت من مدينة كانكان ونواحيها حتى مدينة سيكاسو، في جنوب غربي مالي وتخوم سيراليون، وليبيريا، وسيطر على مصادر الذهب في البوري. ومد فتوحاته بهمة إلى النيجر، وكان نظام الحكم فيها بالشريعة الإسلامية.
ولكن الاحتلال الفرنسي كان يتربص بهذا الصعود الإسلامي فشبّت الحروب بين الطرفين منذ 1298هـ إلى 1308هـ (1881م إلى 1891م) واشتعلت رحى المعارك بين ساموري والفرنسيين وكانت الغلبة غالبًا لساموري، الذي سطّر بطولات فذّة تمكّن خلالها من مواجهة هجمات القبائل الوثنية عليه من الشرق وتداعيات توقيع معاهدة حاكم فوتا جالون مع فرنسا واشتدت المواجهة العسكرية في عام 1308هـ (1881م) حيث اشتبك الطرفان في كنيران وعلى أبواب بماكو.
إلا أن فرنسا كانت تحاول استرجاع أنفاسها بعقد الهدن بعد هزيمة حملاتها العسكرية وأسر عدد كبير من قواتها، وتفاوض ساموري مع الفرنسيين في عام 1304هـ (1886م) وأبرم هدنة معهم لم تستمر طويلًا حيث اشتعل فتيل المعارك من جديد واشتد أوارها في عام 1308هـ (1891م) وبقي الحال كذلك حتى عام 1315هـ (1898م).
ويجدر الإشارة إلى أسلوب ساموري الذي تميز به في قتال الفرنسيين حيث اتبع سياسة الأرض المحروقة، واستيراد الأسلحة الحديثة من ليبيريا وسراليون وإقامة مصانع محلية لصناعة البنادق وتصليحها. لقد تميز ساموري بعبقرية لافتة، حيث أنه تجاوز تفوق فرنسا العسكري بتقسيم جيشه إلى 3 فرق لكل واحدة مهمتها الخاصة.
- فأما الأولى، فمهمتها التوسع شرقًا وضم الأراضي الجديدة لدولته لتعويض ما يخسره من أراضٍ في مواجهة فرنسا في الغرب. ولذلك أطلقت فرنسا على مملكة ساموري اسم “الإمبراطورية المتنقلة”.
- وأما الثانية فمهمتها التمركز في ساحل العاج، وما يعرف اليوم بدولة غانا وحفظ الأمن والاستقرار.
- وأما الثالثة، فمهمتها قتال الفرنسيين، والعمل على الإثخان فيهم ورفع أرقام خسائرهم قدر المستطاع، مع الانسحاب حفاظًا على الجيش وهو ما يسمى تكتيك حرب العصابات.
ثم يأتي دور سياسة الأرض المحروقة حيث يقوم جنود ساموري بحرق كل الأراضي التي يخرجون منها، حتى إذا وصلها الفرنسيون لم يجدوا فيها ما يحتاجون إليه فيعجزون عن التقدم وينتظرون وصول الإمدادات لهم من مراكز الاحتلال.
وقد استنزفت هذه الاستراتيجية القتالية القوات الفرنسية وكاد أن ينال منها ساموري حتى قدر الله أمرًا كان مفعولًا، حيث تغيرت ظروف ساموري توري ووقع محاصرًا مع قواته في غابات ساحل العاج، بعد أن منعته بريطانيا من التقدم شرقًا، ومنعته القبائل الوثنية من المرور من أراضيها وأعلنت العديد منها الحرب عليه. فأصاب جيشه الجوع والتعب، وبدأ الجنود بالتمرد والعصيان، ولم يتمكن ساموري من ضبطهم أمام سعيهم للبحث عن أي شيء يسد رمقهم ويسكن أوجاع بطونهم.
ولم يلبث طويلًا حتى استيقظ في أحد الليالي ليجد جيشه الذي بلغ تعداده عشرة آلاف مقاتل، قد تفرق عنه في الغابات ولم يتبق له سوى ألفين. واستغلت القوات الفرنسية هذا الضعف فحاصرت القائد الذي أذاقهم الويلات وقعد لهم في كل مرصد، حتى وقع أسيرًا وسجن في يوم من أيام 1308هـ (29 أيلول /سبتمبر، 1891م) ثم تم نفيه إلى الغابون، حيث توفي في عام 1317هـ (1900).
لكن جهود ساموري لم تذهب هباء فقد خلفه حفيده سكوتوري، (1340هـ – 1404هـ) (1922م- 1984م) والذي واصل مسيرته في مقاومة الاحتلال في غرب إفريقيا إلى أن أصبح رئيس جمهورية غينيا كونكاري والتي استقلت في عام1377 هـ (1958م) فكانت أول بلاد محتلة من فرنسا تنال استقلالها في غرب القارة.
ساموري توري قصة بطل مسلم
تصفه الكتب التاريخية بالرجل العبقري حاضر البديهة، برز بفضل قدراته القيادية واستراتيجيته القتالية التي كشفت خلال قرابة العقدين من الزمن صبره وشجاعته أمام أشد الأعداء، استطاع خلالها جمع شمل القبائل وعلاج خلافاتها، جميعًا تحت راية الاسلام، وعزز نهضة أمته بأسباب التقدم والرخاء، فتحولت كل فئات شعبه للإسلام وقد تميّز حكمه ببناء المدارس والمساجد، ودروس الدعوة والوعظ، واعتنى بشكل خاص بتحفيظ القرآن الكريم.
ويكفي أنه استطاع حكم منطقة واسعة من السودان الغربي بكل تناقضاتها وخلافاتها، ولم تقتصر همته على نشر الإسلام بين القبائل الإفريقية فحسب بل اعتنت بغرس روح العداء والمقاومة لكل توسع أجنبي، واشتعلت معها معاني التضحية والفداء حتى يرحل المحتل.
ومما يدل على درجة التزام ساموري بعقيدته، أن فرنسا اختطفت ابنه في عمر الـ12 سنة وعلمته لسنوات الثقافة الغربية ثم أعادته لوالده ليطالبه بالاستسلام لأعدائه وترك طريق الجهاد، وزيّن له الخضوع للفرنسيين، فرفض ساموري بشكل قاطع دعوة ابنه وخشي أن يثير الفتنة ويزعزع وحدة الصفوف، فقتله.
قال الله تعالى ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
لقد تمكن القائد المسلم ساموري ومملكته التي أسسها رغم حجم التحديات، أن يصنع عقبة وحاجزًا منيعًا ضد الفرنسيين، فعرضوا عليه الحماية فرفضها مستعليًا بإيمانه وقاوم بكل استطاعته ولولا اجتماع أسباب اعتقاله لما كان لفرنسا من فرصة للصمود في هذا الركن من القارة.
فقد خذل ساموري بعضُ القادة المسلمين الذين حملوا له العداء، وخذلته خيانة وعمالة البعض الآخر وجاء ذلك في أوج عداء الوثنيين له وتربصهم به، وفي وقت كانت القوة العسكرية لفرنسا وتطورها تسير باتجاه استمرار احتلالها. قال عنه القائد الفرنسي بيروز، أحد كبار قادة القوات الفرنسية: “ساموري هو نابليون السودان”. بالنظر للتقدير الذي يكنه الفرنسيون لقائدهم الشهير نابليون بونابرت.
ونختم الحديث عن هذا القائد المسلم النجيب بشهادة الجنرال الإيطالي أورست باراتير الذي قال عنه: “إن ساموري أظهر تفوقًا على كل زعماء السودان في القارة الإفريقية حيث أنه الوحيد الذي أعطى الدليل على صفات الزعيم، وحيث كان سياسيًا محنكًا، وقائدًا يمتلك الطاقة والقدرة على وضع الخطط الحربية التي يصعب تدميرها وأنه إذا فقد جزءًا من الأرض فإنه لم يغادر الموقع إلا بعد أن يكبد الفرنسيين خسائر فادحة وكان يعوض خسارته في الغرب بالاستيلاء على أجزاء مضاعفة من الشرق وهذه استراتيجية كبرى لقائد مسلم رفض الاستسلام بسهولة، ولم يكن لساموري عبقرية عسكرية فحسب بل كان أيضًا دبلوماسيًا بارعًا يتضح ذلك من علاقته بالحكام الأفارقة الآخرين وبالسلطات الفرنسية”.[3]
رحم الله ساموري توري، فلم يترك تاريخ غرب إفريقيا خاليًا من البطولات والأمجاد الإسلامية وترك درسًا بل دروسًا تستوجب العناية والذكر بصفته قائد عسكري واستراتيجي ملهم.
حركة المجاهدين كراموك أليفا با وإبراهيم سوري باري
تأسست هذه الحركة على أكتاف رجلين من قادة المسلمين، الأول هو إبراهيم موسى وعرف باسم كاراموك أليفا با، القائد المسلم الذي جمع القبائل الفولانية في منطقة فوتا جالون. والثاني إبراهيم سوري باري. وانضم للقائدين زعماء قبائل الفولة المهاجرون من منطقة مسينا. وتحولت فوغوميا إلى مركز رئيسي لنشاطهم وحجر الأساس لحركتهم الجهادية.
توفي كاراموكو أليفا في عام 1188هـ (1775م) فاجتمعت القبائل تحت إبراهيم سوري بعد صراع على السلطة انتهى بانتصاره على منافسيه في عام 1189هـ (1776م) وحصل على لقب الإمام، الذي يقع على عاتقه حفظ البلاد وتوسيع سلطانها. ومضى الإمام الجديد يسطر الانتصارات تلو الانتصارات فكسب ولاءً شديدًا من جنوده، وأسس قاعدة في تمبو تقع اليوم في غينيا كونكاري، وذلك في عام 1193هـ (1780م) بدلًا من القاعدة الأولى في فوغومبا.
واستمر في حكم مملكته بوحدة وقوة، حتى عام 1197هـ (1784م) ثم تسللت الفوضى لبعض أجزاء مملكته، حيث تغلب فيها الإمام عبد الله باديمبا بن كراموكو أليفا، وتسمى أتباعه على اسمه “ألفيا”، بينما حمل أتباع سوري اسم “سوربيا” نسبة إلى اسم قائدهم.
وما كان للقائدين أن يقبلا بهذا الوضع فتنازع كلاهما الحكم، إلى أن وصلا لقناعة بتوحيد جهودهما والجهاد معًا، واقترحا حلًا مناسبًا لكلاهما، وهو أن يتناوبا على الإمامة بشكل سنوي. وبالفعل هدأت الأجواء واتحدت الصفوف، وانتظم الحكم تحت راية الشريعة الإسلامية وعاش شعبهما بحرية وأمن واستقرار إلى أن استولى على بلادهم الاحتلال.
حركة الشيخ أحمد لوبو
ومن الحركات الجهادية البارزة في غرب إفريقيا حركة الشيخ أحمد لوبو الذي ولد في منطقة ماسينا في عام 1188هـ (1775م)، من عشيرة مسلمة من عشائر الفولاني التي هاجرت إلى تلك المنطقة وعاشت مع شعب البامبارا، وتلقى أحمد دراسته الإسلامية على يد أحد شيوخ أسرته في وسط مجتمعات الوثنية في زمانه، ثم انتقل إلى مدينة جني التي كانت آنذاك مركزًا إسلاميًا مهمًا حصل فيه أحمد على دروس في التفسير والفقه وعلوم الدين.
وانتمى أحمد للطريقة القادرية، فاشتغل في دعوة الوثنيين لطريقته، وتقول بعض الروايات التاريخية أن أحمد تأثر بتعاليم الحاج عثمان فودي وطريقة جهاده فمشى على خطاه. وأعلن الشيخ أحمد الجهاد على الوثنيين في عام 1227هـ (1813م) فانتصر عليهم وتمكن منهم ودخل مدينة تمبكتو التي كانت بيد المراكشيين، وانتصر عليهم أيضًا ثم دخل مدينة جني، وطارد المعتقدات الوثنية فيها واتخذ مدينة أطلق عليها اسم حمد الله، على مقربة منها، وجعلها حاضرة لدولته الإسلامية في منطقة ماسينا.
وتسمى الشيخ أحمد باسم أمير المؤمنين وأعلن الحكم وفق نظام الشريعة الإسلامية، ومنع المنكرات والتدخين، وأقام علاقات وطيدة مع الدولة العثمانية. وبعد وفاة أحمد لوبو في عام 1259هـ (1844م) خلفه ابنه أحمدو الثاني، ثم أحمدو الثالث، الذي استمرت دولته حتى عام 1277هـ (1861م)، تاريخ سقوطها بعد هجوم الحاج عمر سعيد تل، حاكم مملكة التوكولور، التي تقع فيما يسمى اليوم السنغال والتي انهارت بسبب الاحتلال لاحقًا.
ورغم أن الشيخ أحمدو لوبو استلهم قيادته من مملكة سوكوتو وحصل على الكتب منها ووطد علاقاته مع أمير الدولة محمد بلو (1232هـ – 1253هـ) (1817م- 1837م)، إلا أنه رفض التبعية لها وامتنع عن دفع الضرائب لأميرها، واعتمد في حكم مملكته وتطويرها على مملكة الفولانيين ومؤلفات الشيخ عثمان وعلماء سوكوتو في كثير من أعماله وتنظيماته.
ورغم انهيار حركة أحمد لوبو بوقع الاحتلال، بقي أثرها في المنطقة عميقًا.
مصير الاحتلال الفرنسي في غرب إفريقيا
في بنين (داهومي)
لم تهنأ فرنسا باحتلالها لبلاد غرب إفريقيا، ففي عام 1306هـ (1889م) نشب صراع بين ملك داهومي (بنين) وفرنسا، واستبسل الأهالي في الدفاع عن أراضيهم رجالًا ونساء، حتى اشتهرت فرقة الأمازون النسائية في قتال الفرنسيين، الذي لجأوا إلى سياسة التفاوض، فأبرموا مع ملك داهومي معاهدة في عام 1307هـ (1890م) استولت فرنسا بموجبها على بورتو نوفو وكوتونو.
لكن المقاومة استمرت والحشد الفرنسي كذلك حتى هيمنت القوات الفرنسية على البلاد وأطلقت حملات التنصير المسعورة في كل مكان، وسجل تاريخ الحرب العالمية الثانية استخدام الفرنسيين لجنود من بنين في الحرب. ورغم استقلال بنين من فرنسا في عام 1380هـ (1960م) إلا أن الأخيرة ربطتها باتفاقيات تعاون اقتصادي وعسكري وفني، كانت حجر أساس في استمرار الهيمنة.
في بوركينا فاسو (فولتا العليا)
فولتا العليا أو بوركينا فاسو (وبوركينا تعني وطن الرجال المستقيمين، وفاسو تعني أرض أجدادنا) احتلها الفرنسيون في عام 1312هـ (1895م) فتوقف المدد الإسلامي إليها وسد فراغه المد التنصيري بإمكانيات ضخمة ودعم بالقوة، ومع ذلك بقيت الأغلبية في هذه البلاد مسلمة، وأسلم رؤساء قبائل الموسي.
واستغلت فرنسا انحدار مملكة ياتانغ في الحرب الأهلية التي اندلعت بين العائلات الحاكمة فتدخلت عام 1312هـ (1895م) بحجة حل الخلافات، وإخضاع البلاد لحماية الاحتلال الفرنسي وما يعرف بالحكومة العامة لإفريقيا الغربية الفرنسية. وبعد مواجهات عنيفة تحولت البلاد إلى نظام الحماية الفرنسي بين 1312هـ و1314هـ (1895م و1897م) وتمت السيطرة على الأجزاء الباقية في أراضي شعب الموسي الذي قاوم الوجود الفرنسي بقوة.
وضمت فرنسا هذه المناطق إلى بلاد النيجر لتأسس مستعمرة النيجر والسنغال العليا في عام 1321هـ (1904م) وفي عام 1337هـ (1919م)، تحولت لمستعمرة فولتا العليا. وحين طالب المسلمون في فولتا العليا بالاستقلال عمدت فرنسا لتقسيم المستعمرة لتضعف أصوات المقاومة، فأعطت مناطق منها لمالي وأخرى للنيجر وأخرى لساحل العاج، في عام 1350هـ (1932م).
واستقلت فولتا العليا (بوركينافاسو) عن فرنسا في عام 1380هـ (1960م) لكن كما هو حال بنين بقيت مرتبطة بالإدارة الفرنسية بالمصالح الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
في توغو
عرفت توغو الاحتلال البرتغالي في القرن التاسع هجري (15م) ثم الاحتلال الفرنسي في القرن الحادي عشر هجري (17م) ثم الاحتلال الألماني في عام 1311هـ (1894م) لكن هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى أعطى إنجلترا ثلث البلاد في جهة الغرب أو ما يعرف بتوغو البريطانية، والباقي عرف بتوغو الفرنسية، وبعد الحرب الثانية العالمية تحول القسمان إلى وصاية الأمم المتحدة، وفي عام 1376هـ (1957م) تم ضم التوغو البريطانية لساحل الذهب بموجب استفتاء شعبي، لتظهر بعد ذلك دولة غانا، واستقلت توغو الفرنسية في عام 1380هـ (1960م) وهي توغو المعروفة الآن.
في جزر الرأس الأخضر
عانت جزر الرأس الأخضر من الاحتلال البرتغالي، وانضمت إلى غينيا البرتغالية التي عرفت فيما بعد بغينيا بيساو، وبرزت فيها الحركة التحررية باسم الحزب الإفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر، والتي نشطت عسكريًا منذ عام 1382هـ (1963م) واستقلت عن البرتغال في عام 1393هـ (1974م) وانفصلت على إثر ذلك عن غينيا التي لم يجمعها معها سوى رغبة الاحتلال، واستقلت جزر الرأس الأخضر رسميًا عن الاحتلال البرتغالي في عام 1394هـ (1975م).
في غينيا بيساو
كانت غينيا بيساو جزءًا من مسرح أحداث حركات التحرر على يد الحزب الإفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر بقيادة أميلكار كابرال، في عام 1375هـ (1956م) والذي شن حرب عصابات على الاحتلال. واستمر نضال كابرال وقامت ثورة في غينيا بيساو في عام 1382ه (1963م) ضد الاحتلال البرتغالي بلغ صداها أنحاء العالم لكنها قمعت بشدة من قبل رئيس وزراء البرتغال آنذاك، سالازار.
ومع بداية السبعينات تمكن الحزب من السيطرة على ثلثي البلاد، وفي عام 1392ه (1972م)، اعترفت مع ما يسمى لجنة تصفية الاحتلال التابعة للأمم المتحدة، بالحزب الذي يطالب بالاستقلال. ولم يعارض هذا القرار سوى الولايات المتحدة والبرتغال، فالأولى كانت مستفيدة من البلاد لتأمين إمدادات دعمها للاحتلال الإسرائيلي في حرب “أكتوبر 1972″، حيث كانت تستأجر قاعدة من البرتغاليين في جزر الآزور.
أما البرتغال، فلم تغير موقفها إلا بعد استلام حكومة جديدة مقاليد الحكم فتفاوضت مع الثوار في عام 1394ه (1974م)، وحصلت غينيا بيساو وجزر الرأس الأخضر على استقلالهما في نفس العام.
في ساحل العاج
كانت بلاد ساحل العاج تحت وطأة الاحتلال الفرنسي واستقلت عنه في عام 1380هـ (1960م)، وكان أول رئيس للبلاد، الرئيس فلكيس هوفويت بوانيي وهو الشخصية التي قادت حركات الاستقلال.
ومما يشهد له التاريخ من سياسات ماكرة لفرنسا في هذه البلاد، امتناعها عن توفير مدارس في شمال البلاد التي غالبيتها مسلمة، مما أجبر المسلمين المصرّين على التعلم إلى الالتحاق بمدارس الإرساليات النصرانية أو كان مصيرهم العيش في جهل، وفضّل الكثير منهم الجهل على التعلم في مدارس تحرف عقيدتهم الإسلامية وكان لذلك تداعيات كارثية. وقد عمدت فرنسا لمنع التعليم باللغة العربية حتى في الكتاتيب والمساجد، وأهملت مناطق المسلمين تمامًا كي لا تقوم لهم قائمة ويقبعون في تخلف وجهل.
في السنغال
عندما تولى نابليون الثالث الحكم في فرنسا عام 1265ه (1848م). عيّن الجنرال “فدرب” حاكمًا على منطقة السنغال فشنّ حملات كبيرة لإخضاع البلاد وواجهته مقاومة شرسة من الإمارات المحلية التي أشعلت نار الحرب لعشرات السنين انتهت بسيطرة فرنسا على السنغال وتحويلها لقاعدة للعمليات العسكرية للاحتلال.
وفي عام 1319هـ (1902م) اتخذت فرنسا من دكار بدلًا من سان لوي مقرًا لما سمي الحكومة العامة لإفريقيا الغربية الفرنسية، التي ضمت المستعمرات الفرنسية في غرب إفريقيا. وفي عام 1343ه (1924م)، صدر مرسوم يسمح لأهالي السنغال بحمل بطاقة الرعية الفرنسية وانتخاب نواب لهم في المجلس النيابي الفرنسي، فكانوا الوحيدين الذين وصلوا لهذا المستوى.
وفي عام 1380ه (1959م) انضمت السنغال إلى السودان الفرنسي فيما يسمى اتحاد مالي، لكن ما لبثت أن استقلت مالي في عام 1380هـ (1960م) وانهار الاتحاد.
وكانت السنغال ضمن أراضي مملكة مالي الإسلاميين ثم الفولانيون ثم بعد الاحتلال استقلت باسم دولة السنغال.
في سيراليون
سيراليون وهي عبارة مكونة من كلمتين برتغاليتين، سيرا تعني الجبل، وليون تعني الأسد. نشط فيها الاحتلال البريطاني وتحولت في القرن 13هـ (19م) لمركز تدار منه معظم المستعمرات البريطانية في غرب إفريقيا إلى أن استقلت عن بريطانيا في عام 1380هـ (1961م).
في غامبيا
تكونت غامبيا من الجزء الذي تنازل عنه البريطانيون لفرنسا في جزيرة غور، والقسم الذي تنازل الفرنسيون عنه لبريطانيا على جانبي نهر غامبيا فتكونت بذلك دولة غامبيا، وتلي هذا التأسيس حملات إبادة للمسلمين أو الطرد أو التنصير، ومع ذلك عجزت هذه الحملات عن القضاء على الإسلام، فركّز الاحتلال على نشر التنصير بين الوثنيين وإذكاء عدائهم تجاه المسلمين لصد الصعود الإسلامي المحتمل، واستقلت غامبيا في عام 1384هـ (1965م).
في غانا
في عامي1289و1290هـ (1873و1874م) احتل البريطانيون دولة أشانتي واستولوا على شاطئ الذهب الذي استقل في عام 1376هـ (1957م) تحت اسم غانا، وانضم إليه القسم البريطاني من توغو المجاورة، وفي عام 1380هـ (1960م)، أصبحت غانا مستقلة.
في غينيا كونكاري
اشتهرت البلاد بجهاد القائد ساموري توري، وفي عام 1370هـ (1951م) تأسس حزب سياسي أحد أبرز قادته أحمد سيكو توري، حفيد ساموري توري، واستقلت البلاد بشكل كامل بعد إصرار المقاومة على تحقيق ذلك، وكان خروج فرنسا لافتًا حيث علّقت فورًا جميع مساعداتها التي كانت تروّج لها على أنها إنسانية وأخرجت طاقمها خلال 48 ساعة كنوع من الإذلال للغينيين.
في ليبيريا
عمد الأمريكيون لتوطين الزنوج النصارى ليبيريا في عام 1237هـ (1822م) للعمل كمنصرين وأصبحت كنائس ليبيريا تابعة لكنائس الولايات المتحدة في وقت شهد الإسلام تقدمًا ضعيفًا في البلاد. وهذا ما يفسر كون جميع رؤساء ليبريا حتى عام 1400هـ (1980م) كانوا أساقفة. ويعتبر الوجود الأمريكي في ليبيريا حجر عثرة أمام التقدم الأوروبي في القارة.
وشهدت مدينة مونروفيا في عام 1236هـ (1821م) حربًا شرسةً بين السكان المحليين المسلمين ومرتزقة أمريكا الذين تحصنوا بأسلحة نارية. بينما لم يتمكن ساموي توري من نجدتهم لانشغاله في حروبه الضارية مع فرنسا. واستقلت ليبيريا بقرار أمريكي في عام 1264هـ (1847م) وحكمها رئيس أمريكي من أصول إفريقية وتعتبر إلى اليوم أكبر محطة تجسس أمريكية في المنطقة.
في مالي
تصدى جهاد ساموري توري للاحتلال الفرنسي في مالي واستمر الحال كذلك إلى اعتقاله، حيث تم ضم البلاد إلى إدارة الاحتلال في غرب القارة، ولكن خشية فرنسا من أن يعقب هذه المقاومة اندلاع ثورة داخلية على غرار ثورة الجزائر دفعها لإعطاء الحكم الذاتي للسودان الفرنسي (مالي) وكان ذلك في عام 1377هـ (1957م)، وتأسست دولة مالي الحالية في عام 1380هـ (1959م) بعد اتحاد السودان الفرنسي (مالي) والسنغال واستقلت بشكل رسمي من الاحتلال الفرنسي منذ عام 1380ه (1960م) لكن الهيمنة الفرنسية وقواتها لا تزال اليوم في مالي وقواعدها العسكرية ومصالحها الاقتصادية تمنع نهضة الماليين.
وتملك فرنسا حاليًا رابع احتياطي عالمي من الذهب يقدر بـ 2436 طن [4] بما قيمته 111.8 مليار دولار رغم عدم وجود منجم واحد على أراضيها بينما لا تمتلك مالي أي احتياطي من الذهب رغم أنها تملك 860 منجمًا من الذهب وتنتج 50 طن سنويًا!
شعب أزواد
ضمّ شعب أزواد قبيل الاحتلال الفرنسي من عدة سلطنات على أساس قبلي منها: سلطنة الفولان ومملكة صنغاي وسلطنة البرابيش وسلطنة كونته وسلطنة إلمدن وسلطنة الأنصار أو كلنتصر وسلطنة إفوغاس.
ومع حركات الاستقلال طلبت فرنسا من سلاطين مالي في عام 1376ه- 1377هـ (1957م – 1958م)، جعل منطقة أزواد محمية فرنسية إلى أن يتم تأطير أهلها. إلا أن أهل أزواد رفضوا العرض الفرنسي خشية أن يستهدف الثورة الجزائرية الفتية آنذاك ولمنع إقامة فرنسا قواعد عسكرية في المنطقة.
ومما يجدر تسجيله أن حملات التنصير فشلت فشلًا ذريعًا في مالي المسلمة، ولا يزال قبائلها يطالبون بخروج فرنسا بشكل نهائي إلى اليوم ولا يزال العدوان الفرنسي ينال منهم بقصوفاته الوحشية إلى اللحظة!
في موريتانيا
هي بلاد شنقيط العربية، وشنقيط تعني عيون الخيل، وبعد الاحتلال أطلق عليها الفرنسيون اسم موريتانيا، نسبة إلا بلاد المور. وشكّل أقصى جنوب شرقي موريتانيا جزءًا مهمًا من مملكة غانا الإسلامية حيث تقع عاصمتها “كومبي صالح” التي اندثرت آثارها مع توالي العقود.
وعرفت بلاد شنقيط الاحتلال البرتغالي في القرن التاسع هجري (15م) حيث استولى البرتغاليون على شبكات تجارة الصمغ والذهب والرقيق، ونهبوا البلاد لقرابة قرنين، وعمدت فرنسا إلى عقد اتفاقيات مع حكام موريتانيا تمامًا كما أبرمت بريطانيا الاتفاقيات لحماية تجارتهم مما يعكس جدية المنافسة بين دول الاحتلال الأوروبية.
وشكلت الرحلات الاستكشافية الأوروبية أول خطوة لتغلغل الاحتلال عسكريًا في موريتانيا. وألحقت فرنسا موريتانيا بمستعمراتها في إفريقيا الغربية، وتحولت بعد ذلك البلاد لقاعدة للتوسع الفرنسي في بلاد المغرب.
وفشلت فرنسا في الحصول على معاهدات حماية من قبائل المنطقة ولم يستجب لطلباتها سوى عشيرة الطرازة، فأطلقت حملة عسكرية حاقدة بقيادة كوبولاني في وسط البلاد، ففشلت، ودعمتها بقوة نجدة أخرى فواجهت مقاومة شرسة يقودها الشيخ ماء العينين وهو أحد شيوخ الصحراء الغربية.
وقد نجحت مقاومة الشيخ ماء العينين في الإثخان في الاحتلال وقتل القائد الفرنسي كوبولاني لكن مقاومته تراجعت بسبب الخيانات من بعض القبائل وحجم الإمدادات الفرنسية المتواصلة فحوّل تركيز مقاومته إلى المغرب على أمل أن يحقق تغيير الحكم في المغرب تحرير موريتانيا، ولكن سرعان ما تلاشى عزمه في هذا الاتجاه حيث أن سقوط السلطان المغربي عبد العزيز وتنصيب أخيه عبد الحفيظ زاد الوضع شدة لعدم مبالاته بطرد المحتلين.
مع ذلك استجمع الشيخ ماء العينين قواته وأعلن ثورته ونصّب نفسه سلطانًا واتجه إلى فاس في عام 1327هـ (1910م) لكن القوات الفرنسية منعته منها. وفي نفس العام توفي الشيخ ماء العينين وخلفه ابنه الهيبة الذي سيطر على منطقة السوس جنوب المغرب ومراكش وأسر القنصل الفرنسي، لكن حملة عسكرية فرنسية كبيرة بقيادة الجنرال ليوتي، استرجعت مراكش وأجبرت الهيبة على التراجع فانتقل إلى موريتانيا وساندته القبائل الموريتانية حتى توفي في عام 1337هـ (1919م).
وخلت الساحة لفرنسا التي أحكمت قبضتها على موريتانيا، وفي عام 1375هـ (1956م) أنشأت فرنسا فيها مجلسًا حكوميًا رئيسه فرنسي ونائبه موريتاني، ليصبح بعد ذلك أول رئيس للبلاد التي استقلت واتخذت مدينة نواكشط عاصمة لها. وخلف الاحتلال بعده دمارًا وتخلفًا فقد نهب خيرات البلاد ولم يترك فيها بنية تحتية تستحق الذكر. بل زرعت فرنسا النعرات والعصبيات وحاربت العربية في البلد المسلم العربي.
في النيجر
تصدى الطوارق في النيجر لحملة الاحتلال الفرنسي بشراسة وثبات، لكن التدخل البريطاني أضعف المقاومة ومكّن فرنسا من السيطرة على البلاد في عام 1341ه (1923م)، واستمرت النيجر مسلوبة الإرادة منهوبة الخيرات حتى استقلت في عام 1380هـ (1960م).
في نيجيريا
كذلك عاشت نيجيريا نفس فصول النهب والمعاناة تحت وطأة الاحتلال البريطاني إلى أن استقلت في عام 1380هـ (1960م).
وكانت نيجيريا جزءًا من الإمبراطورية البريطانية المتوسعة التي ركزت على استغلال المواد الخام والمعادن والمواد الغذائية الهامة للتنمية الصناعية الغربية. ونيجيريا التي تلقب بـ”عملاق أفريقيا”، بسبب اقتصادها وعدد سكانها الكبير، قد عانت ولا تزال من آثار الاحتلال في أرضها. وساهمت الأحزاب المحلية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في حركات التحرر وشاركت بفاعلية في المطالبة باستقلال شعوبها وإخراج الاحتلال من أرضها.
حقبة ما بعد الاستقلال في غرب إفريقيا
انتهى شكليًا الاحتلال الأوروبي في غرب إفريقيا في عام 1395هـ (من منتصف الخمسينيات إلى 1975م) وانتقل الحكم من دول الاحتلال إلى حكومات وأنظمة جديدة للدول الإفريقية، ورافق هذا الانتقال مظاهر عنف واضطرابات سياسية كبيرة.
وتعود الأسباب الرئيسية لخروج الدول الأوروبية من غرب القارة كما في غيرها إلى:
- عجز القوى الأوروبية، التي أهلكتها ديون الحرب العالمية الثانية فلم تتحمل تكلفة الموارد اللازمة لإحكام سيطرتها على الدول الإفريقية التي احتلتها.
- نمو الوعي السياسي لدى الأفارقة وتولد شعور حازم بضرورة العمل على تحصيل الاحترام والاستقرار وحق تقرير مصير بلادهم بعدما عاينوه من تجنيد دول الاحتلال لأبنائهم في الحرب العالمية الثانية. وتعالت أصوات القوميين الأفارقة تطالب بخروج المحتلين، كما حصل في عام 1364هـ (1945م) حين طالب المؤتمر الإفريقي الخامس بإنهاء الاحتلال.
- عقد مؤتمر الأطلسي عام 1360 هـ (1941م) الذي أعلن خلاله الرئيس الأمريكي فرانكلن روزفلت أن «جميع الناس لهم الحق في تقرير المصير»، أعقبه ميثاق الأطلسي الذي يعطي حق تقرير المصير للدول تحت الاحتلال الأوروبي ويلزم دول الاحتلال بالوفاء بذلك، ولكنه حظي بالتزامها بعد طول مماطلة ومراوغة.
- استمرار المقاومة المحلية وحركات الجهاد والتحرر التي استنفذت جهود قوات الاحتلال واستنزفتها بالحروب الطويلة والمتوارثة.
تداعيات الاحتلال الأوروبي على غرب إفريقيا بعد الاستقلال
كانت إفريقيا بالنسبة لأوروبا مخزنًا استراتيجيًا لمصادر الطاقة والمواد الخام وثروات الأرض، لكن رغم حجم النهب الذي عرفته المنطقة إلا أن الانحسار الجزئي للنزيف الاقتصادي بعد الاستقلال قد أدى إلى انتعاش نسبي في اقتصادات الدول الإفريقية، وإلى ارتفاع نسبة القراءة والكتابة والتعليم، مما أدى إلى إنشاء أول صحيفة مؤيدة للاستقلال.
لكن واقعيًا رغم ما شهدته اقتصادات الدول في غرب إفريقيا من نمو اقتصادي نسبي بعد الاستقلال فإنها استمرت تابعة ومرؤوسة في الاقتصاد العالمي. ولا تزال بعض الدول في غرب إفريقيا مثل النيجر ومالي والتشاد بمثابة مصدر رئيسي لموارد فرنسا، فـ 25% من المفاعلات النووية التي تعتمدها فرنسا للتزود بالكهرباء تعمل بفضل مناجم للطاقة واليورانيوم في شمال النيجر والتشاد.
كما التصق اسم فرنسا بهذه الدول لسطوة المحتل في الماضي وهيمنته على الاقتصاد في الحاضر. وهذا ما جلب استمرار الحضور الفرنسي وهيمنة حكومات باريس السياسية والعسكرية. ولم تقف تداعيات الاحتلال الأوروبي على الماديات بل وصلت لروح الثقافة الشعبية للأفارقة، فمن تداعيات الاحتلال تآكل الإرث الثقافي واللغوي في غرب إفريقيا، حيث سادت لغات المحتلين بدل اللغات المحلية ونشأت هويات جديدة عمّقت الصراعات في المنطقة.
ومما شوّش المشهد الثقافي والسياسي الإفريقي تمكن فرنسا من إيجاد نخب إفريقية، حملت لواء الدفاع عنها ومحاربة كل الأفكار المطالبة بالاستقلال، عملت على إجهاض حركات المقاومة والسخرية من دعوات التخلص من الاحتلال، وبقيت تدين بالولاء لفرنسا والمحتلين حتى بعد الاستقلال.
ومن المفارقات التي سجلها واقع غرب إفريقيا أن استقلالها لم يمنع من التدخلات العسكرية التي تتدخل دون سابق إنذار في إسقاط أنظمة معادية وتنصيب أخرى موالية لدول الاحتلال. ومن أمثلة ذلك تدخل القوات الفرنسية واعتقالها للرئيس العاجي المنتهية ولايته، لوران غبابغو في عام 1432هـ (2011م) حيث قصفت مقرّه وسلمته لقوات خصمه حسن واتارا.
وتكررت هذه التدخلات العسكرية إلى اليوم تحت ذرائع منها “محاربة الإرهاب”. ولا تزال فرنسا تتعامل مع الدول التي احتلتها سابقًا على أنها تابعة لها وهذا ما يفسر وجود وزارة لديها تسمى بوزارة المستعمرات القديمة. وهذا ما يفسر أيضًا استمرار شريان الإمدادات العسكرية الجوية لتدخل القوات الفرنسية في أي وقت لإسقاط أنظمة وتنصيب أخرى وضمان استمرار مصالحها في نهب البلاد الإفريقية.
يرافق هذه البشاعة نظرة دونية من فرنسا لهذه الدول على أنها متخلفة وبحاجة دائما لسيادتها. وتكمن خطورة الاحتلال الفرنسي في كونه الاحتلال الوحيد -بحسب الباحثين- الذين يسعى لهدم قيم وعقائد الشعوب التي يحتلها، فيسبق المستشرق الفرنسي والكاهن وعالم الاجتماع الدبابات والجيوش تحت شعار نشر القيم الفرنسية.
وقد اتفقت الخلاصات التاريخية على أن الاحتلال الأوروبي وخاصة الاحتلال الفرنسي قد سعى بقوة لامتصاص واحتواء كل مُكوِّن ثقافي أو اجتماعي من السكان المحليين في ثقافة دول الاحتلال وهو ما عرف بالثقافة “الفرانكوفونية” و”الأنجلوسكسونية”.
كيف تستغل فرنسا غرب إفريقيا؟
يجدر الإشارة هنا إلى تصريحات نارية صدرت في عام1441 ه (2019م) على إثر الأزمة الفرنسية الإيطالية بسبب الهجرة، حيث قال لويجي دي مايو، نائب رئيس الحكومة الإيطالي بكل صراحة: إن فرنسا تسببت بـ”إفقار قارة إفريقيا”، وأضاف: “إن اتفاقيات ما يُعرف بالاستقلال تجعل من فرنسا خامس اقتصاد في العالم، ولولا هذا الاستغلال الفرنسي الفاحش لثروات الدول الإفريقية لكان اقتصادها في المرتبة 15 عالميًا”، ودعا أيضًا الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على باريس بسبب سياساتها تجاه إفريقيا. [5]
ونهب الاحتلال مقدرات وثروات الشعوب الإفريقية لقرون ممتدة، ولا تزال فرنسا تحتفظ باحتياطات النقد القومية لـ 14 دولة إفريقية منذ عام 1380هـ (1961م) وهي: بنين، بوركينا فاسو، غينيا بيساو، ساحل العاج، مالي، النيجر، السنغال، توجو، الكاميرون، جمهورية أفريقيا الوسطى، تشاد، جمهورية الكونغو، غينيا الاستوائية، الجابون.
وقد مكنت شبكة “فرانس-أفریك” فرنسا من الاحتفاظ بالسيطرة على الوحدة النقدية الأساسية في وسط إفريقيا وغربها والمعروفة باسم الفرنك الإفريقي، مما يخضع أنظمة 24 دولة إفريقية للنظام المصرفي الفرنسي، لكونهم يعتمدون على عملة واحدة مرتبطة بالعملة الفرنسية.
وبفضل هذه الحيلة تضمن فرنسا التدفق المستمر للعائدات النقدیة والاقتصادية من المستعمرات الفرنسية السابقة إلى باريس، وقد اشترطت العقود الفرنسية على هذه الدول تورید 100% من ودائع النقد الأجنبي الخاصة بها إلى البنك المركزي الفرنسي، ثم انخفضت هذه النسبة إلى 65% في السبعينيات، ثم 50% في عام 1425هـ (2005م).
وهكذا تبقى اقتصادات الدول الإفريقية خاضعة لفرنسا بالتعامل بعملة واحدة ومجبرة على وضع 50% من احتياطاتها الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي حيث تشير التقارير المالية إلى أن احتياطات الدول الإفريقية في هذا البنك بلغت نحو 500 ملیار دولار، لكن هذه الدول غير مخوّلة للوصول إلى هذه الأموال بأكثر من 15% في السنة، وإلا فأمامها الاقتراض من الخزانة الفرنسية ودفع الفوائد الضخمة على ديونها.
فأي تنمية اقتصادية تُرتجى مع مثل هذا السرطان الذي يتغذى على الاقتصاد الإفريقي!
ولضمان استمرار الهيمنة الفرنسية تغرق باريس هذه الدول بديون الأسلحة، مثال على ذلك تدفع التوغو إلى اليوم 80% من الدخل القومي لصالح فرنسا كضريبة للاحتلال.
المنافسة على غرب إفريقيا
ورغم إرساء فرنسا لأسباب استمرار هيمنتها ونشرها لقواعدها العسكرية والسياسية، فإن نزعة المنافسة الأجنبية على هذه المنطقة لا تزال مستمرة وهذه المرة بصعود منافسين أقوياء، مثل الصين وأمريكا وروسيا حيث ساعد صعودهم في تراجع نسبي لفرنسا التي استنزفتها بالموازاة تكاليف الحروب التي تخوضها مؤخرًا مع التمردات الجهادية في دول الساحل وغرب إفريقيا.
وهو ما دفع بعض حكومات الدول الإفريقية إلى محاولة التخلص من التبعية لفرنسا بعقد صفقات تجارية مع منافسيها وفتح المجال لهم للزحف بشكل أقوى.
واقع المسلمين في غرب إفريقيا
ورغم شراسة حملات التنصير واستماتتها في محو الإسلام فإن هذا الدين العظيم لا يزال سائدًا في المناطق الداخلية لغرب إفريقيا والساحل الغربي للقارة، حيث يمثل المسلمون 70% من إجمالي سكان غرب إفريقيا. وهو دين أكبر المجموعات العرقية في غرب القارة. وفي هذه المنطقة الأكثرية سنيّة، وتنتمي إلى مدرسة المالكي الفقهية أو للصوفية.
وتظهر غالبية المسلمين في كل من مالي وموريتانيا والسنغال وغامبيا وغينيا والنيجر؛ والساحل العلوي والداخلي لثلثي سيراليون وداخل ليبيريا؛ والمناطق الغربية والشمالية والشمالية الشرقية لبوركينا فاسو؛ والنصف الشمالي للدول الساحلية في نيجيريا وبنين وتوغو وغانا وكوت ديفوار.
ومما يجب ذكره في هذا المقام أن الثقافة الإسلامية لدى شعوب غرب إفريقيا غالبًا مع تختلط بتقاليدهم الخاصة، فرغم حرصهم على الصلاة وحفظ القرآن والحضور في المساجد بشكل لافت، إلا أن بعض العادات الوثنية لا تزال ترافق بعضهم كالتعلق بالأرواح وتعليق التمائم واللجوء للسحر وغيره من مظاهر شركية على اعتبار أنها تحميهم من الأذى ويعكس ذلك ضعف الحركات الإصلاحية في دعوة المسلمين للإسلام الحق.
ولعل أبرز تحدي يواجهه سكان غرب إفريقيا المسلمون هو التنصير الذي يأتي بشكل هيئات إنسانية ومشاريع تنموية وتعليمية وصحية. واستمرار الحملات التنصيرية في الهيمنة والتأثير. فضلًا على استمرار النزيف الاقتصادي بحرمانهم من ثروات بلادهم، وضعف التعليم في جميع مستوياته مما تسبب في هجرة الطلاب إلى الخارج واستقرارهم هناك.
وسجلت بعض التقارير مشكلة أخرى يعاني منها خاصة سكان غانا المسلمين وهي تغلغل النفوذ الصهيوني في المنطقة، وانتشار الفرق الضالة كالقادِيانِيَّة. وهذا لا يعني انعدام نشاط الدعاة المسلمين في المنطقة ولكنه لا يزال ضعيفًا رغم تأسيس منظمات وهيئات إسلامية لخدمة العمل الإسلامي. فضلًا عن ضعف التمويل والدعم أمام التمويل الكبير والدعم الأكبر الذي تحظى به المؤسسات التنصيرية.
المذابح المروّعة بحق المسلمين
وسجل التاريخ ولا يزال في هذه الزاوية من القارة، مذابح مروّعة استهدفت المجتمعات المسلمة، قُتل فيها أعداد كبيرة من المسلمين وهُدمت مساجدهم ومدارسهم ومحلاتهم التجارية ومنازلهم، نذكر منها المذبحة التي وقعت في يوم من أيام 1414هـ (يوم 2 من فبراير 1994م) بالمنطقة الشمالية لغانا، والتي بدأت بهجوم من قبيلة كونكمبا النصرانية على عشرات القرى المسلمة فكانت خسائر المسلمين البشرية والمادية لا تعد ولا تحصى! ومنها مذبحة أخرى شهدتها ليبريا في يوم من أيام 1409هـ (24 من ديسمبر 1989م) حيث قامت عصابة تشارلز تيلور بقتل مئة ألف مسلم وأحراق الدعاة والأئمة وقطع آذان المؤذِّنِين وألسنتهم، وهُم أحياء، وتشريد 700 ألف مسلم أُجْبِرُوا على تَرك ديارهم وأموالهم، وهُدِّمت المساجد والمدارس الإسلامية في المنطقة.
وبعدها بعام واحد فقط شهد عام 1410هـ (1990م) مذبحة إبادة أخرى ضد المسلمين على يد عصابة تشارلز تيلور في ليبيريا، حيث استهدفت القرى ذات النشاط الإسلامي المزدهر، وأمعن المجرمون تقتيلًا في سكانها المسلمين رميًا بالرصاص أو طعنًا بالسكاكين المسمومة، ففرَّ مَن بقي منهم على قيد الحياة إلى غينيا وسيراليون. ومع ذلك طاردتهم العصابة المجرمة إلى داخل أراضي سيراليون، لتصفية من تبقى منهم، واستشهد في هذه المجزرة الشيخ باه رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
وتولد ضد هذا الظلم والعداون رد فعل طبيعي بإعلان الجهاد في المنطقة، وتأسست حركة “إنقاذ مسلمي ليبريا”، على يد الشباب المسلم التي انطلقت عملياتها الجهادية في 15 من صفر 1412هـ، فتمكنت من استعادة أغلب المناطق التي استولت عليها عصابة تشارلز تيلور، وواجهت الحركة الجهادية محاولات حثيثة من النصارى لإجهاضها بإغداق الأموال على الكنائس للقيام بحملات صليبية مكثَّفة، ولكنه فشلت أمام إباء المسلمين.[6]
وللأسف رغم حجم المجازر الدامية التي نالت من المسلمين في غرب إفريقيا لم يتجاوز مدد الإسلام من خارج المنطقة بعض المنظمات الإغاثية المحدودة رغم أن جميع دول غرب إفريقيا ما عدا ليبيريا قد انضمت لمنظمة التعاون الإسلامي بشكل رسمي منذ استقلالها.
الأمل في الإسلام
ومن يتأمل في خريطة دول غرب إفريقيا سيبصر تلك الصراعات التي ظهرت معها حركات التمرد والجهاد للتصدي للهيمنة الغربية، وفي هذا دلالة على استمرار الاحتلال بشكل لا يختلف كثيرًا عما عرفته القارة في القرون الماضية، واستمرار المقاومة ضده كما كانت في سابق الأزمنة في هذه المنطقة، فنتيجة الظلم والإمعان في إذلال الشعوب ونهب ثرواتها وتسليط الخونة عليها مع ميراث ثقيل من المكر الغربي، وبقاء جيوش الاحتلال في قواعدها، يستوجب ردود فعل طبيعية في كل مجتمع يحمل قيم الإسلام العظيمة.
ومن أدلة ذلك قول المحلل كرسيتوف لوسور، المتخصص في الدراسات السياسية والباحث في العلوم الإسلامية، بمدينة ستراسبورغ (فرنسا)، في مقال نشرته مجلة لاكروا الفرنسية حيث قال: “إنّ الاتفاق الذي تمّ التوقيع عليه في 20 حزيران (يونيو) العام 2015 في باماكو، بين الحكومة المالية وتمرّد الطوارق، لا يشير فقط إلى نهاية الصراع الإقليمي الذي بدأ في كانون الثاني (يناير) 2012، ولكنّه يتيح قبل كل شيء، عزل الجماعات الجهادية التي انضمت إلى الصراع. كنا نظن أننا نعرف القارة الإفريقية، وخاصة غرب إفريقيا، وهي منطقة لم نغادرها أبدًا على الرغم من إنهاء الاستعمار فيها، وهي ساحة احتفظنا فيها بتأثير اقتصادي، وسياسي بشكل خاص. لكنّ مسألة الإسلام ظلت غائبة بصورة فريدة عن رؤيتنا للقارة الإفريقية.”
بهذه الكلمات يتجلى لنا التحدي الكبير الذي يتهدد أطماع الاحتلال الغربي في غرب إفريقيا، إنه الإسلام، الذي شيّد الحصون المنيعة وصنع البطولات التليدة، وأخرج الناس من ظلمات الوثنية والجاهلية لأنوار التوحيد والإيمان الخالص، فأزهرت الشعوب ممالك مبهرة وقيادات ملهمة وعطاءات يُضرب لجمالها الأمثال.
ولن تتخلص هذه المنطقة من أطماع الاحتلال إلا بوحدة القوى والقبائل المسلمة وتحالفها كما فعل أجدادهم ثم الالتفاف حول القيادات المخلصة للتحرر التام وحفظ الثروات والممتلكات والهوية، وبناء نهضة مستقلة عن كل براثن الاحتلال وأذنابه من منهزمين وضخ مفاهيم الاستعلاء بالإيمان والمسابقة بالخيرات فتعود أمجاد الممالك الإسلامية ويعم الأمن والرخاء.
وللوصول لهذه المرحلة لابد على الأمة الإسلامية في باقي أنحاء العالم أن تمد يد العون والمساعدة بمد جسور الدعوة والعلم والإغاثة وتطبيب جراحات المسلمين وسد نواقصهم، فإنما هي أمة واحدة كما أرادها الله سبحانه تتواصى بالحق، تتواصى بالصبر.
المصادر
- عيساوي أحمد، الاعلام العربي والاسلامي والتحدي الحضاري المعاصر في قارتي آسيا وإفريقيا في قرن العولمة، التقوى العدد 147 حزيران 200 ص 47
- خضر ص 118- 119
- إبراهيم عبد الله عبد الرزاق: المسلمون والاستعمار الأوروبي لإفريقيا صحفة 179
- المصدر: World Gold Council
- فرنسا وإفريقيا استعمار متواصل ونهب مستمر للثروات.
- د. جمال عبد الهادي، أ. علي لبن: المجتمع الإسلامي المعاصر (ب) إفريقيا، ص196-201.
- المسلمون في غرب إفريقيا (تاريخ وحضارة) تأليف محمد فضل علي باري، وسعيد إبراهيم كاريدية.
- خليل عماد الدين مأساتنا في أفريقيا، وثائق من تاريخنا المعاصر.
- أحمد محمد كاني: الجهاد الإسلامي في غرب إفريقيا ص73.
- د. عبد الله عبد الرازق إبراهيم: انتشار الإسلام في غرب إفريقيا
- مجلة الوعي الإسلامي.
- مشاكل المسلمين في غرب أفريقيا