الإسلام في أوروبا: الفتوحات والدول الإسلامية في أوروبا

ما أن استقر الإيمان في قلوب من سبق، حتى انعكست أنواره فتوحات اخترقت زوايا الأرض وكان لأوروبا نصيب من بركات هذا الفضل.

ولا شك أن الفتوحات الإسلامية قد تركت الأثر الكبير بنشر الإسلام في أوروبا، فقد خاض المسلمون حروبًا ضروسًا ضد الإمبراطورية البيزنطية والفرس والبربر والقوط في العهدين الراشدي والأموي، فأشرقت بجهودهم وتضحياتهم شمس الحضارة الإسلامية في الأرض، وأقاموا دولة امتد عمرها لـ8 قرون بقيت عطاءاتها الحضارية والعلمية لا يضاهيها عطاء، واستمرت آثارها تشهد على عظمة الإسلام في صناعة مجد الإنسان، فانتهلت من هذا الميراث أمم غربية لاحقة وشهدت -على خجل- لأسبقية المسلمين في إنارة الأرض الأوروبية بعد عقود من الظلام.

أوروبا وطموحات المسلمين

ويسجل التاريخ خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كأول محطة شهدت الحديث عن مشروع فتح أوروبا وذلك حين طرح عقبة بن نافع عام 682م فكرة اجتياز المضيق إلى إسبانيا، ولم تتحقق الرؤية إلا بعد حوالي 30 عامًا، عندما ناقش عقبة خطة الفتح مع قائده في شمال إفريقيا موسى بن نصير وذلك في زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك.

لكن قبل ذلك، طرق الإسلام أبواب القارة الأوروبية لأول مرة في عصر معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- (41- 60هـ). من الجهة الشرقية، أثناء محاولة المسلمين المتكررة لفتح القسطنطينية بهمة لا تبارى، تحدوهم بشارة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.

فتح الأندلس

ثم طرق الإسلام أبواب القارة الأوروبية مرة ثانية على يد القائد المسلم طارق بن زياد من الجهة الغربية عند فتح الأندلس في عام (92هـ- 711م).

وخرج حينها طارق الذي كان تحت إمرة موسى بن نصير بجيشٍ قوامه 7 آلاف مقاتل إلى شبه جزيرة أيبيريا (الأندلس) واجتاز المضيق الذي حمل اسمه “مضيق جبل طارق” بين شمال إفريقيا وجنوب أوروبا، فلقيه ملك القوط لذريق “رودريك” بنحو مائة ألف جندي، فقاتله طارق وقتله في معركة حاسمة، في موضعٍ يسمى وادي لكُّة، في 28 رمضان سنة 92 هـ؛ وانتصر المسلمون انتصارًا مؤزرًا بعد أن وصلهم مدد بخمسة آلاف مقاتل من المغرب، فسيطروا على الأندلس التي دخلت تحت الحكم الإسلامي، ووضعت مع هذا الفتح أول لبنة في بناء أول دولة إسلامية في الأرض الأوروبية.

ولم تقف همة القائد طارق بن زياد عند هذا النصر، بل جمع العدة وانطلق بعد ذلك للأراضي المجاورة ففتح قرطبة وطليطلة، ثم فتح شذونة وإلبيرة وغيرها من المدن الإسبانية؛ ولحق به موسى بن نصير ليكمل فتح مدن الأندلس الأخرى حربًا وسلمًا، ففتح قرمونة وإشبيلية وماردة، وامتدت حركة الفتح الإسلامي من برشلونة شرقًا وأربونة في الجوف وقادش في الجنوب، وجليقية في الشمال الغربي وانتشر الإسلام انتشارًا كبيرًا بعد ذلك.

ثم وصلت رسالة من الوليد بن عبد الملك، إلى موسى بن نصير وطارق بن زياد بأن يعودا أدراجهما إلى دمشق خشية تبعات التمدد في بلاد غريبة. واستلم ولاة الدولة الأموية حكم البلاد التي أضحت كلها إسلامية.

وكان أول الولاة على الأندلس، عبد العزيز بن موسى بن نصير وأيوب بن حبيب اللخمي والحر بن عبد الرحمن الثقفي.

وبقيام سلطان الأندلس الإسلامي وسقوط دولة القوط الغربية وانقسامها لممالك دانت بالولاء للمسلمين، بدأ عصر الحضارة الإسلامية في أوروبا الذي امتد قرابة 800 سنة حتى سقوط مملكة غرناطة سنة 1492م.

ولم يكتف المسلمون بسلطانهم في الأندلس بل تقدمت جيوشهم تشق عنان أراض جديدة في أوروبا حتى بلغت أبواب فرنسا. ونشطت حركة الفتوحات الإسلامية عبر جبال البرانس، جنوب غرب أوروبا بين فرنسا في الشمال وإسبانيا جنوبًا وذلك في عهد عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-، عام 719م في ولاية السمح بن مالك الخولاني للأندلس.

معركة تولوز

وانطلق والي الأندلس السمح إلى جنوب فرنسا بجيشٍ كبير عبر منطقة سرقسطة، واجتاز جبال البرانس إلى أن أصبح أمام أربونة الفرنسية، عاصمة ولاية سبتمانية، فأطبق عليها الحصار إلى أن فتحها، واتخذها مركزًا لتوغله داخل فرنسا حتى وصلت حوافر خيول جيشه طولوشة (تولوز) الفرنسية، لكن السمح لم يتمكن من فتحها، فرجع إلى الأندلس ليجمع جيشًا يحاصر به المدينة ثم عاد بعدها وأطبق الحصار الطويل عليها حتى كاد أهلها أن يستسلموا، لكن الدوق أودو، دوق أقطانيا (أكيتين) أرسل جيشًا ضخمًا لنجدة أهل طولوشة قبل أن تسقط مدينتهم، واندلعت معركة عرفت في التاريخ باسم معركة طولوشة أو تولوز، فهُزم فيها المسلمون رغم استبسالهم في القتال على قلة عددهم، واستشهد قائدهم السمح بن مالك، فاضطرب الجيش وتراجعت فلوله تحت قيادة أحد القادة المسلمين الأبطال، وهو عبد الرحمن الغافقي الذي سحبهم لقاعدتهم في مدينة أربونة ببراعة قيادية لافتة، وكان ذلك في 9 ذو الحجة 102هـ – 9 يونيو 721 م، ومن ثم إلى الأندلس.

وحاولت على إثر هذه الهزيمة بعض المناطق الفرنسية خلع الطاعة من الحكام المسلمين فاستدركتهم نجدات من الأندلس، وثبتوا في المناطق التي سيطر عليها السمح في فرنسا.

وكان السمح والي الأمويين في بلاد الأندلس وبعد وفاته قام الأندلسيون بتعيين عبد الرحمن الغافقي في منصب الوالي بشكل مؤقت حتى تسلم الولاية عنبسة بن سحيم الكلبيّ. وقد تمكن عبد الرحمن من إخماد الثورات القائمة في الأندلس بين العرب والبربر وعمل على تحسين وضع البلاد الأمني والثقافي.

وفي عام 725م، تابع أمير الأندلس الجديد عنبسة محاولات المسلمين للزحف شرقًا باتجاه نهر الرون، ووصل مدينة آرل الفرنسية، وفتح مقاطعة بروفانس الواقعة في الزاوية الجنوبية الشرقية من فرنسا، فسهل عليه ذلك التحرك شمالًا داخل فرنسا، ففتح مدينة أفينيون، واستمر في التقدم شرقًا، حتى فتح مدينة لوذون (ليون)، ثم فتح مدينة أوتون غربًا، ثم أرسل سرايا جيشه التي وصلت إلى لوكسيل، وفيين، وماكون، وشالون، وبون، وديجون، وغيرها، من مدن وسط شرقي فرنسا.

ويقول بعض المؤرخين أن عنبسة تغلغل في شمال أوروبا حتى بلغ مدينة سينس، الواقعة على مسافة 30 ميلًا شرقي باريس، وهي أبعد مسافة وصل إليها قائدٌ مسلم داخل أوروبا.

واضطر عنبسة أن ينسحب بقواته إلى الجنوب، بسبب قساوة فصل الشتاء، لكنه لم يتمكن من الوصول، لأنه واجه في طريقه للعودة هجومًا اندلعت على إثره معركة طاحنة بين المسلمين والفرنجة، فاستشهد عنبسة وهزم جيشه، وعاد ما تبقى منه إلى قواعده في سبتمانية. كما ذكر ذلك الأمير شكيب أرسلان في كتابه “تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط”.

معركة بلاط الشهداء

واستمر المسلمون رغم ذلك في التقدم شمالًا تحت قيادة الأمير الجديد عبد الرحمن الغافقي والذي حاول استكمال مسيرة الوالي عنبسة، واستطاع أن يجتاح بجيوشه وادي الرون إلى عمق فرنسا حتى نهر اللوار، وحين وصلوا إلى مدينة (بواتييه) الفرنسية، سجل التاريخ، معركة “بلاط الشهداء” في عام 114هـ- 723م، التي هُزم فيها جيش المسلمين هزيمة مؤلمة وقُتِل منه الكثير، وسقط قائده عبد الرحمن الغافقي شهيدًا في أرض المعركة، وتوقف التقدم الإسلامي في القارة الأوروبية عند هذا الحد في ذلك الزمان. لكنّ المسلمين كانوا قد فتحوا النصف الجنوبي من فرنسا كله.

وسميت المعركة ببلاط بمعنى القصر لغة، لأن المعركة وقعت بالقرب من قصر مهجور وأضيفت كلمة الشهداء لكثرة ما وقع في تلك المعركة من قتلى للمسلمين. أما الأوروبيون فينسبون المعركة لمدينة تولوز التي وقعت المعركة بالقرب منها، وأحيانا يسمونها معركة بواتييه لوقوعها أيضا بالقرب من مدينة بواتييه الفرنسية.

وكان قوام جيش المسلمين في معركة بلاط الشهداء خمسون ألفًا بقيادة عبد الرحمن الغافقي -رحمه الله- مقابل أربعمائة ألف من الفرنجة تحت قيادة “شارل مارتل” واستمر القتال بين الجيشين لمدَّة تسعة أيام لا غالب فيها ولا مغلوب.

لكن في اليوم العاشر، وبعد أن حمل المسلمون على الفرنج حتى كادوا ينتصرون تمكنت فرقة من فرسان الفرنجة بدخولها إلى معسكر الغنائم خلف الجيش الإسلامي، من تشتيت قوة المسلمين وبث الاضطراب في الجيش ومن هذه الحركة المفاجئة تقدم الفرنجة واستهدفوا قائد المسلمين عبد الرحمن بسهم أثناء محاولته تجميع صفوف جيشه.

ثم انتظر ما تبقى من جيش المسلمين نزول الليل وانسحبوا لقاعدتهم أربونة قرب جبال البرانس. وفي صباح اليوم التالي تفاجأ الإفرنج بانسحاب المسلمين ولم يجرؤ مارتل على اللحاق بهم وعاد بجيشه لبلاده.

أسباب الهزيمة

تعود أسباب هزيمة المسلمين في معركة بلاط الشهداء إلى درجة الإنهاك التي كان يعاني منها جيش المسلمين الذي قطع آلاف الأميال منذ خروجه من الأندلس في وقت لم يصله أي مدد يجدد حيويته ويعينه على مهمته.

وقد بالغت بعض الروايات في تفسير الهزيمة بقصة الغنائم وحرص المسلمين عليها، ولم يكن هذا السبب لجيش قطع كل هذه المسافات لنشر الإسلام وإعلاء كلمة الله، ولو كانوا كذلك لحملها الجنود معهم أثناء انسحابهم ليلا، حيث أوضحت الروايات أن جيش المسلمين ترك كل شيء خلفه وبقيت خيامه منصوبة والغنائم مطروحة في أماكنها.

وسجلت هذه المعركة محطة ذات أهمية كبرى في التاريخ يقول عنها المؤرخ الأوروبي أناتول فرانس: “إن أهم تاريخ في حياة فرنسا هو معركة بواتيه -بلاط الشهداء- حين هَزَم شارل مارتل الفرسان العرب -المسلمين- في بواتيه سنة 732م، في ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام الهمجية والبربرية الأوربية بين التاريخ والواقع”.

وجدير بالذكر قول المؤرخ إدوارد جيبون في كتابه اضمحلال الإمبراطورية الرومانية الذي يلخص رؤيته لهذه المعركة حيث قال: “خط انتصار (المسلمين) طوله ألف ميل من جبل طارق حتى نهر اللوار كان غير مستبعد أن يكرر في مناطق أخرى في قلب القارة الأوروبية حتى يصل بالساراكنز (يقصد المسلمين) إلى حدود بولندا ومرتفعات أسكتلندا، فالراين ليس بأصعب مرورا من النيل والفرات وإن حصل ما قد ذكرت كنا اليوم سنرى الأساطيل الإسلامية تبحر في التايمز بدون معارك بحرية ولكان القرآن يدرس اليوم في أوكسفورد ولكان وعاظ الجامعة اليوم يشرحون للطلاب المختونين قداسة وصدق الوحي النازل على محمد”.

لكن العديد من المؤرخين اختلفوا مع وجهة نظر جيبون واعتبروا توقف الزحف الإسلامي بعد بلاط الشهداء لم يكن بسبب الهزيمة، فالمسلمون اشتهروا بتكرار محاولات فتح القسطنطينية إلى أن فتحت في عهد محمد الفاتح العثماني، ويفسر هؤلاء المؤرخون عزوف المسلمين عن مواصلة الفتوحات بهذا الاتجاه إلى أن الأراضي الأوروبية في ذلك الزمان لم تكن مغرية للمسلمين لأن تلك الأراضي كانت تعيش في وضع اجتماعي وثقافي وحضاري منحط.

استمرار الغزو في بلاد الغال

وفي الواقع لم تتوقف غزوات المسلمين بعد معركة بلاط الشهداء، بل استمرت مباشرة في بلاد الغال حيث أرسل الوالي الجديد عبد الملك بن قطن الفهري حملة جديدة بقيادة يوسف بن عبد الرحمن الفهري، فغزا بلاد الغال واجتاح آرل، ثم مدينة سانت ريمي وأفينيون.

واستلم الراية منه الوالي عقبة بن الحجاج السلولي فوضع يده على بورغونية، حتى بلغت حملته بيدمونت بشمال إيطاليا.

لكن ولاة الأندلس انشغلوا بعد ذلك بمشاكلهم الداخلية وتنازعهم على السلطة، فخسروا ما فتحوه من أرض في بلاد الغال بشكل تدريجي حتى لم يتبق لهم في عهد الوالي الأخير للأندلس، يوسف بن عبد الرحمن الفهري سوى أربونة، والتي سقطت في عام 759 م، عندما أمر عبد الرحمن الداخل بإجلاء المسلمين من المدينة.

وهو الذي تسلم حكم البلاد بعد مرحلة الولاة، فأسس دولة الأندلس الأولى تحت الراية الأموية واستمرت كذلك مزدهرة حتى تفرق مجدها بين ملوك الطوائف ثم سقطت.

فتح أوروبا في حقبة الأغالبة

دولة الأغالبة.

لم تقف همة المسلمين عند جبهة الأندلس فقط بل برزت الفتوحات الإسلامية بشكل كبير أثناء حكم الأغالبة لتونس، وهذه المرة من الجهة الجنوبية للقارة الأوروبية، ففتحوا جزيرة سردينيا عام (95هـ- 810م)، ثم جزيرة كريت.

والأغالبة عرب من بني تميم، حكموا شمال أفريقيا مع جنوب إيطاليا وصقلية وسردينيا وكورسيكا ومالطة. واتخذوا من القيروان عاصمة لهم، واستمر حكمهم من 84هـ -800م إلى 296هـ- 909م، وكان سلطانهم في البداية تحت حكم الدولة العباسية ثم استقل مؤسس دولة الأغالبة بولاية أفريقية عن العباسيين، واستمر نفوذ دولتهم حتى سقطت على يد العبيديين.

وكان أحد أهم أسباب تفوق دولة الأغالبة عنايتها الكبيرة بالجهاد البحري، حيث أنشأت أسطولًا قويًا مكن الأمير زيادة الله الأغلبي من ضم جزيرة صقلية لملكه عام (212هـ- 827م)، وكان قائد هذا النصر، علم من أعلام النبلاء، وبطل من أبطال الإسلام، أسد بن الفرات الذي قاد أسطول المسلمين وفتح صقلية.

وبعد صقلية، توجهت همم الأغالبة نحو إيطاليا، فوصلوا إلى مدينة برنديزي سنة 221هـ – 836م، ثم سيطروا بعد عام على نابولي، ثم على كابوا في سنة 227هـ -841م.

واستمرت حركة الفتح الإسلامي في عهد محمد بن الأغلب حيث افتتحت مناطق واسعة من قلورية في جنوبي إيطاليا، حتى وصل المسلمون إلى مشارف روما.

وهاجم الأغالبة بالفعل روما سنة 846م لكن ليس للسيطرة عليها بل لإضعاف النفوذ العسكري البابوي، وإظهار شوكتهم المتزايدة في إيطاليا التي كانت تعرف أيضا بـ “البر الطويل”، لذلك استعمل الأغالبة في هذا الهجوم أسلحة خفيفة ولم يطبقوا الحصار ولم يستخدموا المنجانيقات.

وسيطر المسلمون على أجزاء من ساحل إيطاليا، وازداد نفوذهم حتى اضطر “البابا يوحنا الثامن” في عام 484هـ- 872م إلى دفع الجزية للمسلمين بعد أن أصبحت مدينة روما تحت مرمى غزواتهم.

وشكلت جزيرة صقلية مركزًا حضاريًا هامًا للمسلمين والأوروبيين على حد سواء. حيث حكم العرب المنطقة لنحو قرنين ونصف القرن من الزمن، سطعت خلاله حضارة الإسلام المزدهرة في جميع النواحي على غرار الأندلس، وانتشر الإسلام في أغلب مناطق سيطرة المسلمين.

الإسلام في أوروبا في عهد الدولة العثمانية

أمّا العثمانيون فقد أنجزوا قسمًا من أهم الفتوحات الإسلامية في أوروبا، فقد تمكنوا من فتح رومانيا والصرب والبوسنة والهرسك والمجر وألبانيا واليونان وجورجيا وكرواتيا، وأجزاء شاسعة من روسيا والقوقاز وأوكرانيا “القرم”.

وأنارت الفتوحات الإسلامية في عصر الدولة العثمانية جنوب شرق أوروبا، فارتفعت المآذن وانتشرت المساجد وبرز العمران الإسلامي الذي لا تزال آثاره باقية حتى اليوم ليشهد على جمال الحضارة الإسلامية وعطاءاتها.

وفي الواقع فقد بدأت فتوحات الدولة العثمانية في أوروبا منذ عهد مؤسسها عثمان الأول بن أرطغرل، الذي سيطر على أراضي الدولة البيزنطية في منطقة غرب الأناضول، وعبر مضيق الدردنيل باتجاه جنوب شرق أوروبا.

ووصل العثمانيون إلى أوروبا الشرقية عام 1353م لأول مرة تحت حكم السلطان أورخان بن عثمان وتأسست مع وصولهم أوَّل إمارة إسلامية في بلاد البلقان، وامتدت بعد ذلك حركة الفتوحات في أوروبا بشكل متزايد.

ثم فتحت العديد من مدن شرق أوروبا كصوفيا، عاصمة بلغاريا، عام 1383م في عصر مراد الأول.

ووصل العثمانيون لأبرز فتوحاتهم وهو فتح القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية على يد السلطان محمد الفاتح عام 1453م، ومنذ ذلك التاريخ تحول اسمها إلى “إسلامبول”، أي عاصمة الإسلام.

وتزامن الصعود العثماني في عهد السلطان محمد الفاتح مع انهيار الإمبراطورية البيزنطية، فسدّ العثمانيون فراغها وورثوا أرضها وضمُّوا إليهم بلادَ الصِّربِ والبوسنةِ والهرسك وشبه جزيرة المورة من بلادِ اليونان، وبلادِ القرم الواقعةِ على البحر الأسود، وسيطروا على محطاتِ الجنوبيين التَّجارية في بحرِ إيجة، كما قاموا بمحاولاتٍ لفتح بلجراد وإيطاليا، وأثينا.

وفي عهدِ بايزيد الثاني استمرت حركة الفتوحات الإسلامية في أوروبا، فغزت جيوشها بولندا، وحاربت البندقية الإيطالية. مما دق أجراس الخطر لدى الأوروبيين، فاجتمعتِ قواتهم لإيقاف الزحف الإسلامي، ووجَّه البابا “بونيفاس التاسع” نداءً إلى جميع ملوكِ أوروبا وأمرائها للتحالُفِ والقتال، وبالفعل اجتمع ما يصل إلى مئة وعشرين ألفًا من الفرنجة عند مدينة “نيكو بوليس” على نهر الدانوب في بلغاريا قربَ الحدودِ الرُّومانية. إلا أن بايزيد ألحق بهم هزيمةً نكراء، وأسر قادتهم وأذلهم وكان ذلك في عام 799هـ 1396م.

لقد كان هذا النصر سببًا في ترسيخ أقدام العثمانيين في البلقانِ، وتوسع سلطان دولتُهم من الفراتِ شرقًا إلى الدانوب غربًا، وكانت الفرحة في العالم الإسلامي بفتوحات العثمانيين في أوروبا حديث ذلك الزمان.

وفي عهدِ سليمان القانوني، فتحت مدينة بلغراد عام 1521م، وجزيرة رودس في العام التالي، وفتحت مملكة المجر وأجزاء من النمسا، وامتدت فتوحات العثمانيين لبلغاريا، ومقدونيا، واليونان، وصربيا، والجبل الأسود، والبوسنة والهرسك، وكرواتيا، وكوسوفو، وأوكرانيا وبولندا.

ووصلت جيوش سليمان القانوني إلى أسوار فيينا وحاصرتها في عام 936هـ- 1529م، لكنها لم تتمكن من فتحها وأعادت الكرة بعد أكثر من مئة وخمسين عامًا في عام 1094هـ- 1683م في عهد السلطان محمد الرابع لتعكس درجة الإصرار العثماني على الفتوحات والغزو.

كما أطبق العثمانيون الحصار على فيينا -قلب أوروبا النصرانية- ثلاث مرات فحشد لهم البابا في الفاتيكان ما أمكن من قوات أوروبا لوقف هذا الصعود الإسلامي، وجرت معركة فيينا في (20 رمضان 1094هـ/ 12 سبتمبر 1683م)، بعد أن وقعت حينها فيينا تحت حصار العثمانيين لمدة شهرين، وانتهت المعركة بانتصار القوات البولندية والألمانية والنمساوية بقيادة ملك بولندا يوحنا الثالث سوبياسكي على الجيش العثماني بقيادة قرة مصطفى.

وكانت فتوحات العثمانيين فد بلغت ذروتها في أوروبا، ثم توقفت مع دخول الدولة مرحلة الضعف والانحدار، فبدأت تخسر المناطق التي كانت تحت سلطانها في أوروبا تباعًا، منذ القرن 19 إلى تاريخ سقوطها عام 1923م.

ومع ذلك ثبتت بعض الدول الأوروبية على الإسلام مثل بعض دول شرق أوروبا، كمقدونيا، وألبانيا، والبوسنة والهرسك، والجبل الأسود، وبقيت أجزاء من الشعوب تحفظ إسلامها كأقلية مسلمة كما في بلغاريا ورومانيا، بينما سعت دول أخرى إلى القضاء على الإسلام بحملات ممنهجة فلم يترك خلفه إلا بعض الآثار.

ولم يبق للخلافة العثمانية في عام (1337هـ- 1918م) إلا مدينة إستانبول على أرض القارة الأوروبية.

ويرى المؤرخون سبب إقبال الشعوب الأوروبية على الإسلام في عصر الدولة العثمانية بشكل كبير لحسن معاملة العثمانيين للأوروبيين، وفق قيم الشريعة الإسلامية، بالعدل والإحسان، مما حقق الرضا والأمان بين الأهالي. على عكس ما كانت تعيشه المجتمعات الأوربية في ذلك الوقت والتي لا يحلم فيها الفقير ببلوغ منصب أو تحقيق عدل.

أيضًا أحسن العثمانيون معاملة النصرانيين واليهود في مناطق حكمهم، لقرون طويلة، على عكس ما فعل الأوروبيون بالمسلمين بعد سقوط الأندلس.

واتفق المؤرخون على أن فتوحات المسلمين في أوروبا حققت نهضة حضارية وعلمية راقية أخرجت الأوروبيين من ظلمات الجهل والظلم إلى أنوار الحياة الإسلامية الكريمة. على عكس الاحتلال الغربي الذي دمر البلاد والعباد ولم يترك خلفه سوى الفساد والظلم والتخلف والفقر والدمار.

دولة الأندلس الإسلامية

مثّل دخول الإسلام إلى الأندلس قفزة حضارية لأهل البلاد الذين ضاقوا ذرعًا بممارسات حكامهم القوط آنذاك، فدخلت منطقة لا تقل مساحتها عن 700 ألف كيلومتر مربع، دار الإسلام طواعيةً، تضم معظم شبه الجزيرة الأندلسية، سوى منطقة جبلية في الشمال الغربي، كما تضم قسمًا مهمًا من فرنسا، فصنعت الفتوحات شعبا أندلسيًا مسلمًا متعلمًا ينطق بالعربية باختيار الشعب الأندلسي نفسه الذي رحب بالفاتحين المسلمين وأكرمهم.

ويكفي دليلًا على ذلك المدة التي استغرقها فتح المسلمين للأندلس حيث بلغت ثلاث أعوام ونصف العام فقط، بينما استغرقت حروب ما يسمى الاسترداد التي أطلقها النصارى لمحو الإسلام من أرض الأندلس ما يقرب من 770 عاما.

عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة

كانت الأندلس أول الفتح الإسلامي تابعة للدولة الأموية يحكمها الولاة، وبقيت منفصلة عن الدولة العباسية في المشرق بعد سيطرة الأخيرة على سلطان الأمويين، وتمكن عبد الرحمن الداخل الأموي من الفرار من بطش العباسيين وقطع مسافات طويلة ومر بتحديات كبيرة لتنتهي به الأقدار في أرض الأندلس حيث أسس الدولةً الأمويةً هناك في فترة تنازع الولاة وضعفهم، واتخذ قرطبة عاصمة لها. وقد سمي بـ”الداخل” لدخوله حاكمًا لها.

وعبد الرحمن هو حفيد هشام بن عبد الملك، نشأ في بيت الخلافة الأموي بدمشق وظهرت عليه أمارات النجابة والهمة. ونجح عبد الرحمن في التخلص من مطاردات العباسيين الذين كانوا يقتلون كل صاحب سلطة أو مؤهل لها من الأمويين، ولحق به مولاه بدر.

وبعد إقامة مؤقتة في شمال إفريقيا، اختار عبد الرحمن وجهته الأخيرة وهي الأندلس لإعادة الحكم للبيت الأموي. وكانت الأندلس تعيش مرارة الانقسام بين فرق عديدة متناحرة، وثورات لا تنتهي. وكان عبد الرحمن يراقب هذه الأوضاع باهتمام كبير ويتحيّن الفرصة للعبور للضفة الثانية.

ولعب مولاه بدر دورًا كبيرًا في التواصل مع الموالين للأمويين في الأندلس، وتوطيد علاقته بهم، فاجتمع حوله الأنصار وتزايدوا. وكوّن قوة من أكثر من ثلاثة آلاف فارس مخلص له. وجعل عبد الرحمن هدفه الأول قرطبة حاضرة الأندلس وعاصمتها.

وعبر بجيشه مضيق جبل طارق في ربيع الثاني سنة (138هـ ، 755) وأخضع كافة البلاد في طريقه وسيطر على إشبيلية وبايعه أهلها، ثم سيطر على قرطبة العاصمة، بعد أن هزم جيش يوسف بن عبد الرحمن الفهري في موقعة المصارة في العاشر من ذي الحجة سنة138هـ لتخضع له الأندلس كلها.

وبويع لعبد الرحمن كابن للخلفاء بعد صلاته بالناس في (10 من ذي الحجة 138هـ- 18 من مايو 756م)، ليصبح أول أموي يدخل الأندلس حاكمًا. وانطلقت مرحلة الحكم الأموي من سنة 138هـ- 755م إلى سنة 316 هـ- 928م. وبقيت الأندلس الأرض الأموية التي لم يتمكن العباسيون من حكمها رغم اتساع دولتهم واشتداد قوتها.

وقد شهد العباسيون لعبد الرحمن الداخل بالنجابة حيث يذكر أن أبو جعفر المنصور كان جالسًا مع أصحابه مرةً فسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟ فقالوا له: هو أنت. فقال لهم: لا. فعدّدوا له أسماء حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان من بني أمية. فقال أيضًا: لا. ثم أجابهم قائلًا: “بل هو عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفردًا بنفسه، مؤيّدًا برأيه، مستصحبًا لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلدًا أعجميًا فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه”.

وحكم عبد الرحمن الأندلس مدة 33 سنة، أسس خلالها جيشًا قويًا ورفع من قدراته العسكرية، وأنشأ مصانع للأسلحة كالسيوف والمنجنيق. كما أنشأ أسطولًا بحريًا قويًا، وموانئ، كان منها ميناء طرطوشة وألمرية وإشبيلية وبرشلونة وغيرها من الموانئ.

كما اعتنى عبد الرحمن بالجانب العلمي فرحب بالعلماء والفقهاء، واهتمّ بالقضاء وبالحسبة، وأقام شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاشتهر زمانه بالعدل وانتشار المساجد والمدارس والمكتبات ودور القضاء وازدهار مجالس العلماء وغيرها.

وأولى الاهتمام بعمران البلاد وتشييد الحصون والقلاع، والقناطر والمباني، وربط البلاد بشبكة طرقات. كما أنشأ أول دار لسك النقود الإسلامية في الأندلس فأصبحت الأندلس بمدنها قرطبة وإشبيلية مضربًا للأمثال.

واستمرت كذلك دولة الأندلس مزدهرة وقوية وجذابة وبلغت أوج الحضارة والازدهار في عصر عبد الرحمن الناصر (300 – 350هـ / 912 – 961م)، لكن مساحتها كانت قد تقلصت بخسارة المسلمين لأربونة وقرقشونة، وكل الأرض الكبيرة، وبمبلونة، وبرشلونة، وبرغش، وليون، وأبيط، وكل جليقية، وسمورة، وغيرها من مدن شمال غربي الجزيرة الأندلسية، بسبب الدويلات النصرانية التي تحالفت ضد دولة الأندلس، كان أبرز هذه الدويلات “قشتالة”، و”نبارة”، و”ليون”.

الدولة العامرية

توارث خلفاء الأمويين الحكم حتى وصل للخليفة هشام المؤيد بالله، فحكم البلاد في عهده الحاجب المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر (327-382 ه) (938 ه – 1002 م)، وسجل إنجازات عظيمة خلال 50 سنة من دولته العامرية، حفظ بها أمجاد المسلمين وقهر أعداءهم، وأصبح كابوسًا يؤرق النصارى طيلة سنوات حكمه التي لم يعرف فيها هزيمة قط، حيث يقول المؤرخ الأندلسي ابن عذاري، في كتابه “البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب”:

غزا محمد بن أبي عامر في حياته أربعًا وخمسين غزوة، لم يُهزم أبدًا في واحدة منها.

ووصل بفتوحاته إلى أماكن في مملكة ليون وفي بلاد النصارى لم يصل إليها أحدٌ من قبل كمنطقة الصخرة.

ويقول الدكتور محمد عبد الله عنان، في كتابه “دولة الإسلام في الأندلس”: “كان مقتديًا بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ”، فكان من عادته الحاجب المنصور في جهاده وبعد كل معركة أن ينفض ثوبه، ويأخذ ما يخرج منه من غبار ويضعه في قارورة، ثم أمر في نهاية حياته أن تُدفن معه هذه القارورة؛ وذلك حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى”.

ويقول عنه ابن الاثير: “كان المنصور بن أبي عامر عالمًا، محبًا للعلماء، يكثر مجالستهم ويناظرهم، وأكثر العلماء ذكر مناقبه، وصنفوا لها تصانيف كثيرة، وكان حسن الاعتقاد والسيرة، عادلًا، وكانت أيامه أعيادًا لنضارتها، وأمن الناس فيها”.

وتوفي الحاجب المنصور في 27 رمضان 392 هـ في مدينة سالم، وهو عائد من إحدى غزواته على برغش، التي أصيب فيها بجروح.  ودُفِن في قصره بالمدينة، ونُقِش على قبره:

آثاره تنبيك عن أخباره            حتى كأنك بالعيان تراه

تالله لا يأتي الزمان بمثله             أبدًا ولا يحمي الثغور سواه

وخلفه ولده عبد الملك الذي سار على نهج أبيه إلى أن توفي عام 399 هـ، فخلفه أخوه عبد الرحمن الذي قتل بعد فترة قصيرة من حكمه حيث دخلت الأندلس في عهده فترة من الاضطرابات استمرت لأعوام وانتهت بسقوط الدولة الأموية وقيام ممالك الطوائف.

الأندلس بين ملوك الطوائف

بدأ ازدهار الأندلس بالذبول منذ نخر الضعف في جسد الدولة بعد وفاة المنصور بن أبي عامر، وانهارت الدولة الأموية تمامًا في سنة (422هـ / 1021م)؛ وانقسمت الأندلس بين ملوك الطوائف، الذين وصل عددهم إلى 23 ملكًا. فالتهمت الدويلات النصرانية المدن الأندلسية واحدة تلو الأخرى واستولى النصارى على طركونة، وبراغة، وقلمرية، ومجريط، وطليطلة سنة 478هـ (1085م).

دخول المرابطين إلى الأندلس

لجأ الأندلسيون إلى أمير دولة المرابطين القوية بالمغرب، القائد النبيل يوسف بن تاشفين فاستجاب لهم وعبر المضيق بجيشه، واستقبله الأهالي استقبال الفاتحين في إشبيلية، ثم قصد بطليوس والتي كانت على مقربة من الزلاقة حيث يوجد ألفونسو السادس وجنوده، وجمع المرابطون جنودهم وكذلك جمع المعتمد بن عباد بإشبيلية عساكره وجمع أهل قرطبة عساكرهم أيضا، ولحق بركب يوسف بن تاشفين المجاهدون المتطوعة من قرطبة وإشبيلية وبطليوس وسائر بلاد الأندلس، حتى وصل الجيش إلى الزلاقة في شمال البلاد الإسلامية، وعدده يربو على الثلاثين ألف رجل.

معركة الزلاقة الماجدة

قاد يوسف بن تاشفين جيش المسلمين إلى الزلاقة، أحد أشهر المواقع الإسلامية في التاريخ. وحشد له النصارى جيشًا ضخمًا حيث تشير في بعض التقديرات إلى أكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل، على رأسهم ألفونسو السادس بعد أن وصله المدد من الممالك النصرانية فرنسا وإيطاليا وغيرها، وتقدم جيشه يحمل الصلبان.

وسبق الحرب رسالة طويلة من ألفونسو لابن تاشفين سطرت بحبر الاستعلاء والكبر، فرد عليه ابن تاشفين برسالة قصيرة يقول له فيها: “بلغنا يا أذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن تكون لك سفن تعبر بها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله تعالى في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)”، وخيَّره يوسف بن تاشفين بين الإسلام والجزية والحرب.

واختار ألفونسو الحرب في رده على ابن تاشفين وسأله في رسالته ما ردك؟ فأخذ يوسف بن تاشفين الرسالة، وقلبها وكتب على ظهرها: “الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأُذنك، والسلام على مَنِ اتَّبع الهدى”. فكان الرد بداية الهزيمة في قلب ألفونسو حيث ارتعدت له مفاصله.

وكانت لحظات الحشد والتعبئة وحي على الجهاد في أرض الأندلس من بعد سنوات الذل والهزيمة والجزية، لحظات ثمينة تلقتاها قلوب المؤمنين باشتياق عظيم، وتعالت آيات سورة الأنفال تتلوها الألسنة في المنابر والساحات، وقام العلماء وأهل الموعظة بدورهم في تحريض المؤمنين على القتال.

وكان في جيش ابن تاشفين عالم فقيه من علماء المالكية في قرطبة هو الفقيه أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي، فرأى في ليلة الجمعة في منامه رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول له: “يَا ابْنَ رُمَيْلَةَ، إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ، وَإِنَّكَ مُلاقِينَا”. فكانت البشرى لجند المسلمين.

وكان ألفونسو قد وعد بأن لا يقاتل المسلمين في الجمعة لكنه غدر وأشعل فتيل المعركة في يوم جمعة، مع ذلك كان جيش ابن تاشفين يقظًا.

وفي يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479هـ=23 من أكتوبر 1086م قسّم ابن تاشفين جيش المسلمين لثلاث فرق، فرقة الأندلسيون بقيادة المعتمد بن عباد وملوك الأندلس، وفرقة المرابطين وعلى رأسهم البطل المرابطي الكبير داود ابن عائشة، وكانت هذه الفرقة خلف الجيش الأندلسي. والفرقة الثالثة الجيش المرابطي بقيادة يوسف بن تاشفين ليختفي خلف أحد التلال على مسافة من الجيش، بحيث لا يُرى هذا الجيش فيخدع النصارى.

ودارت فصول الحرب وكانت الغلبة تميل لجيش ألفونسو الذي استُنزف بشكل كبير في قتال فرقتي ابن عباد وأبو عائشة حتى تحرك جيش يوسف بن تاشفين، وجنوده في كامل قوتهم، فحاصروا الجيش النصراني.

يقول الحميري: “فبادر إليه يوسف، وصدمهم بجمعه، فردَّهم إلى مركزهم، وانتظم به شمل ابن عباد، ووجد ريح الظفر، وتباشر بالنصر، ثم صدقوا جميعًا الحملة، فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبرًا عظيمًا، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف، وحمل معه حملة نزل معها النصر، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين فصدقوا الحملة”.

واستطاع أحد الفرسان المرابطين أن يصل إلى ملك قشتالة، وأن يطعنه بخنجره في فخذه طعنة نافذة وبقي أثر هذه الطعنة مع ألفونسو بقية عمره، فكان يعرج منها.

وفر ألفونسو مع ما تبقى معه من جند وبعض الروايات تقول بأن الذين نجوا كانوا أقل من الثلاثين. وغنم المسلمون بعد هذا النصر العظيم كل ما كان من مال وسلاح ودواب وغير ذلك، واستشهد من المسلمين فيها حوالي ثلاثة آلاف رجل من بينهم العلماء والفقهاء وأعيان الناس، وصدقت رؤيا ابن رميلة فاستشهد أيضا في هذه المعركة رحمهم الله جميعًا.

واستعاد المسلمون طُلَيْطلَة مرة أخرى..

وترك ابن تاشفين كل الغنائم لأهل الأندلس، زاهدا في فتات الدنيا وقفل عائدًا إلى بلاد المغرب، وعمره آنذاك تسع وسبعون سنة.

الأندلس في عهد الموحدين

وبعد سقوط دولة المرابطين انقسمت الأندلس مرةً ثانيةً إلى طوائف؛ وكانت دولة الموحدين قد لمع نجمها في المغرب واستقوت، فاستنجد الأندلسيون بها، فأنجدتهم سنة (540هـ / 1145م)، وضموا الأندلس لدولتهم لكن البلاد كانت قد خسرت مناطق أخرى ومدن أهمها سرقسطة.

ولم تلبث أن هزمت دولة الموحدين في معركة العقاب أمام النصارى سنة (609هـ / 1212م)، فتحولت الأندلس إلى المقاومة الشعبية لابن هود وابن الأحمر، ضد الجيوش النصرانية الغازية حتى سقطت قرطبة في يد النصارى في (23/10/633هـ – 29/6/1236م).

الأندلس في عهد ابن الأحمر

حاول ابن الأحمر توحيد الأندلس الإسلامية واتخذ “غرناطة” عاصمةً للدولة النصرية أو مملكة غرناطة، آخر دولة إسلامية في الأندلس، لكن جيوش النصارى كانت تتقدم بمكر وحقد، واستولت على بلنسية سنة (626هـ / 1238م) ثم شاطبة ثم مرسية، سنة (640هـ / 1243م)؛ واستنجد الأندلسيون مرة أخرى بالمغاربة، ولكن الحروب الأهلية في المغرب حالت دون وصول أية نجدة. فاستنجدوا بالدولة الحفصية بتونس، وأيضا بدون جدوى.

وقاوم ابن الأحمر النصارى لوحده، حتى حاصروا عاصمته غرناطة سنة (643هـ / 1244م). فقدم الطاعة لملك قشتالة، وقبل أن يؤدي له جزيةً سنويةً، وأن يكون حليفًا له في كل حروبه، وسلم ابن الأحمر لقشتالة جيان ومنطقتها، وأعانهم على غزو مدينة إشبيلية سنة (645هـ / 1241م) ومنطقة غربي الأندلس.

وتوفي ابن الأحمر، مؤسس الدولة النصرية، سنة (671هـ / 1272م) وقد تقلصت مساحة دولة الأندلس بشكل كبير جدًا.

الأندلس في عهد أبي عبد الله محمد الفقيه

الإسلام في أوروبا
قصرُ الحمراء هو قصرٌ أَثري في مملكة غرناطة.

تولى حكم مملكة غرناطة، آخر ما تبقى للمسلمين من حكم في الأندلس، بعد وفاة ابن الأحمر، ابنه وولي عهده أبو عبد الله محمد الفقيه، فتوجهت أنظار نصارى قشتالة إليها لاحتلالها.

وكانت المغرب آنذاك تحت حكم الدولة المرينية، فاستنجد أبو عبد الله بالسلطان أبي يوسف المنصور المريني، فقاد الأخير جيشًا كبيرًا من عاصمته فاس إلى الأندلس وسجل انتصارت مبهرة على النصارى سنة (674هـ / 1275م)، وتكرر قدومهم عدة مرات في السنوات التالية إلى أن توفي في المرة الأخيرة سنة 684ه بالجزيرة الخضراء. فاستفرد المغاربة بالحكم وأسسوا مشيخة الغزاة في “غرناطة” لتنظيم المتطوعين المغاربة.

واستلم الحكم بعد السلطان أبي يوسف، ابنه السلطان أبو يعقوب، فانتقل إلى الأندلس مدافعًا عنها وقاتل النصارى بنفس عزيمة والده، واتبعه في ذلك أبو عبد الله الفقيه فرفع راية الجهاد ضد النصارى، محاولا استدراك تقصيره إلى أن توفي سنة (701هـ / 1302م).

الأندلس في عهد أبي الوليد إسماعيل

بعد وفاة وريث ابن الأحمر مؤسس الدولة النصرية في غرناطة، تحول الحكم إلى أبي الوليد إسماعيل سنة (713هـ / 1314م) وهو من أصل مختلف عن ابن الأحمر، فاستقرت البلاد واستقوت بتحالفه مع المغرب وأراغون، ضد قشتالة، لكنه تعرض للاغتيال سنة 725هـ.

فاستلم الحكم من بعده ابنه أبو عبد الله محمد، الذي استمر في الاستنجاد بالمغاربة ضد النصارى، وكما جرت العادة بالنصرة المغربية، فقد انتقل السلطان أبو الحسن المريني بنفسه إلى الأندلس، وحرر جبل طارق من يد النصارى سنة 733هـ (1333م).

لكن لم يلبث أن تعرص السلطان أبو عبد الله هو الآخر للاغتيال بعد تحرير الجبل.

الأندلس في عهد أبي الحجاج يوسف وخلفائه

تسلم حكم غرناطة بعد اغتيال أبي عبد الله، أخوه أبو الحجاج يوسف، فاستقرت البلاد تحت حكمه واشتهر وزيره لسان الدين ابن الخطيب. وواصل نفس سياسة الاستقواء بالمغاربة حيث استنجد بالسلطان أبي الحسن، فأرسل له جيشا على رأسه ابنه أبي مالك سنة 740هـ، لكنه قتل وهزم جيشه، فلحق به أبي الحسن بنفسه لكنه هو الآخر لقي نفس المصير، حيث هزمه النصارى في موقعة نهر سلادو في جمادى الأولى سنة (741هـ / 1740م)، وسطر النصارى المجازر في جيشه وكان عبوره من المغرب للأندلس لنجدة المسلمين هو الأخير في تاريخ الأندلس، فلم ينتقل بعدها حاكم مغربي ولا جيش.

ورغم انتصار النصارى إلا أن غرناطة صمدت على اضطرابها حيث انشغلت قشتالة بمشاكلها الداخلية.

وزاد الاضطراب في البلاد منذ مقتل أبو الحجاج يوسف سنة 755هـ، إلى أن تسلم الحكم ابنه أبي عبد الله الغني بالله بعد سنة 763هـ. فشن الهجمات على قشتالة وفق قاعدة خير وسيلة للدفاع الهجوم، ووطد تحالفه مع المغرب وأراغون.

واستمرت البلاد مستقرة حتى بعد وفاة أبي عبد الله الغني بالله لكن في عصر أبو عبد الله محمد بن يوسف الذي تسلم الحكم سنة (797هـ / 1394م)، وبعده، تعرضت غرناطة لهجمات من قشتالة النصرانية ولم تحصل على نجدة من المغرب، فسقطت انتقيرة سنة (812هـ / 1409م).

ودخلت بعدها غرناطة في دوامة الأزمات الداخلية، وكثرت الثورات التي كانت تشعلها قشتالة. واشتد استنزاف المملكة وخسرت العديد من القلاع والمدن. وتوالت خناجر الغدر والخيانة، فسقطت مملكة غرناطة، آخر دولة إسلامية في الأندلس، بعد جهاد طويل متواصل دام قرابة القرنين. واحتل النصارى للمرة الثانية جبل طارق سنة (867هـ / 1462م)، وأحكموا قبضتهم على المضيق.

واستقوى النصارى بتحالفاتهم وبدأت مرحلة القضاء على الإسلام.   ومن هنا بدأت محنة الأندلسيين العظمى.

فضل الإسلام على أوروبا

ويشهد التاريخ على أن حضارة المسلمين في الأندلس كانت مبهرة متألقة، وأصبحت بفضلها البلاد مركزًا عالميًا للعلم والحضارة، هو الأكثر تفوقًا وتقدمًا من كل بلاد العالم، وأقبل إليها الباحثون وطلاب العلم والمعرفة من مختلف أرجاء أوروبا والعالم، وكانت عاصمتها قرطبة مضرب الأمثال لروعة طرازها المعماري وتميزها المدني وتطورها الذي لا تضاهيه مدينة إلا بغداد عاصمة الخلافة العباسية.

واعتنق الكثير من أهل البلاد الإسلام مع فتح الأندلس، كما بقي من أراد على المسيحية أو اليهوديّة على دينه فرعتهم الدولة الإسلامية وحفظت لهم حقوقهم.

نعم لقد ترك الإسلام في قارة أوروبا أعظم الأثر، وشهد الأوربيون بأنفسهم على ذلك، وقد أشار له المستشرق الفرنسي الشهير جوستاف لوبون؛ في كتاب “حضارة العرب” حيث قال بأنَّ الحضارة الأوربية في القرن التاسع والعاشر من ميلاد المسيح عليه السلام كانت غارقةً في الجهل والتخلف، وكان أمراؤها يفخرون بأنهم لا يقرءون، وقد دامت هذه الهمجية الأوروبية البالغة زمنًا طويلًا. وعلى النقيض كانت الحضارة الإسلامية في إسبانيا ساطعة ومشرقة، وحينما أرادت أوروبا التحرر من قيود الجهل والتأخر ولَّت وجهها شطر المسلمين الذين كانوا الأئمة وحدهم”.

ثم يقر لوبون بأن الحروب الصليبية لم تكن هي السبب في إدخال العلوم إلى أوروبا، وإنما دخلت العلوم إلى القارة الأوربية عن طريق إسبانيا وصقلِّيَة وإيطاليا؛ حيث بدأت في مدينة طليطلة الأندلسية حركة الترجمة التي نقلت أهم كتب المسلمين من العربية إلى اللغة اللاتينية، ولم يتوانَ الغرب في أمر هذه الترجمة طوال القرنين الثاني عشر والثالث عشر من الميلاد، فتمت ترجمة كل كتب نوابغ المسلمين من أمثال الرَّازي وابن سينا وابن رشد وغيرهم الكثير، كما لم تعرف أوروبا شيئًا عن علماء اليونان القديمة أمثال جالينيوس وأرسطو وأرشميدس إلاَّ من خلال ما قام المسلمون بنقله إلى اللغة العربية، ولم يكن في القرن العاشر من الميلاد على مستوى العالم بلاد يمكن الدراسة فيها غير الأندلس وبلاد الشرق الإسلامي، كما لم يظهر في أوروبا حتى القرن الخامس عشر الميلادي أيُّ عالِمٍ لم يعتمد على استنساخ كتب المسلمين؛ فقد ظلَّت هذه الكتب طوال ستة قرون تقريبًا مصدرًا وحيدًا للتدريس في جامعات أوروبا”.[1]

من أعلام الأندلس

وقد برزت العديد من أسماء العلماء والشعراء وأعلام الأمة في عصر النهضة الأندلسية كان منهم الإمام ابن حزم الأندلسي، وكان جدُّه خلف بن مَعْدَانَ هو أول من دخل الأندلس في صحبة عبد الرحمن الداخل.

وولد ابن حزم في قرطبة، وفيها تلقى تعليمه على يد مشايخ الأندلس، حتى برع ولمع نجمه وأصبح من كبار علماء الإسلام فقهًا وعلمًا وتصنيفًا. وكان والده أحمد بن سعيد من كبار الوزراء، فقد ولي الوزارة للحاجب المنصور بن أبي عامر، ثم وزر أيضًا لابنه المظفر الذي خلفه. وشهد أمور الفتنة في قرطبة، وتقلد الوزارة وسجن. وعاصر ابن حزم ملوك الطوائف وهي في أوج اختلافها.

كما برز الإمام ابن حيان القرطبي المؤرخ، وكان أبوه وزيرًا للمنصور بن أبي عامر، وقد عاصر بدوره أحداث الأندلس في فترة الطوائف، وشهد سقوط دولتهم وقد كتب تاريخ الأندلس بتفاصيله المبهرة والمؤلمة.

إلى هنا تتوقف رحلتنا مع الجزء الأول من قصة الإسلام في أوروبا، ولا يمكن تلخيص تاريخ من المجد التليد وتفاصيله الثقيلة المتشعبة في سطور، لكن ما تم عرضة يقدم فكرة عن روعة الهمم المسلمة وتفانيها في نشر الإسلام وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وعمران الأرض والاستبسال في حفظ بلاد المسلمين رغم حجم العدوان والخطر، ثم ذلك التعاون الرائع بين الدول والممالك الإسلامية وروح الاستعلاء بالإيمان التي تجاوزت تضاريس الأرض وكثافة الجيوش والمكر، لنتحدث في الجزء الثاني من هذه القصة، عن الكيفية التي رد بها الأوروبيون الجميل، بحرب إبادة وحشية عجزت المؤلفات عن وصف بشاعتها، كما سنتناول واقع الإسلام في أوروبا اليوم، وبعض الخلاصات المهمة.

فكونوا بالقرب.

  1. جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م، ص567- 569.
  2. موسوعة الديار الأندلسية.
  3. دولة الإسلام في الأندلس.
  4. المسلمون في أوروبا، ملحق مجلة الأزهر، شهر ذو الحجة 1417هـ، ص39- 40.
  5. د.شوقي أبو خليل: بلاط الشهداء، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1998م، ص31- 45.
  6. تاريخ الإسلام في الأندلس، موقع قصة الإسلام.
  7. الإسلام في أوروبا، ويكيبيديا.
  8. 18 موقعة غيرت مجرى التاريخ الإسلامي، ربما لم تسمع عنها من قبل ! – الجــزء الثاني
  9. أهم الفتوحات الإسلامية في أوروبا، موقع سطور.
  10. معركة بلاط الشهداء، موقع المعرفة.
  11. معركة الزلَّاقة، موقع قصة الإسلام.
  12. فتح الأندلس، الألوكة.
  13. الخلافة العثمانية .. جهاد وفتوحات، موقع قصة الإسلام.
  14. عهد الفتح الإسلامي، موقع قصة الإسلام.
  15. المنصور ابن أبي عامر .. المجاهد الذي لا يهزم، موقع قصة الإسلام.
شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x