شهدت الدولة العثمانية عصرها الذهبي خلال القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين (16 و17 الميلاديين) حيث قويت شوكتها وازدهرت حضارتها واتسع نفوذها في القارات الثلاث، أوروبا وآسيا وأفريقيا.
وكان القرن العاشر الهجري (16 الميلادي) مزدحمًا بالأحداث الكبرى؛ ففيه انقسمت أوروبا الغربية، وبدأ التوسع في العالم الجديد (أمريكا)، وفيه اجتمعت كل الدول العربية تحت السلطان العثماني، وفيه أيضًا احتدم الصراع بين الدولة العثمانية وبين الإمبراطورية الرومانية وإسبانيا.
ورافق التفوق العثماني في هذه الحقبة الكثير من قصص البطولة والنجاح والتي نذكر منها قصة الأخوان بربروسا؛ اللذان ذاع صيتهما عبر البحار، وساهما بشكل كبير في تألق القوات البحرية العثمانية في ذلك الزمان، حيث كانت البحار ميدان تنافس شرس بين العثمانيين والأوروبيين، سجل معه المسلمون انتصارات باهرة وتركوا إرثًا تاريخيًا بطوليًا.
المماليك يتصدون للخطر البرتغالي
اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح فبسطوا سيطرتهم عليه، وشنوا سلسلة هجمات لتوسيع ملكهم في البحر الأحمر، ولأجل تحقيق ذلك سيطروا على الحبشة (إثيوبيا) وشنوا هجمات على سواحل مصر والحجاز في عهد السلطان المملوكي قانصوة الغوري (906-922هـ/ 1500-1516م)، والذي انتبه بدوره إلى أن حملاتهم اتخذت شعارات صليبية، وأن أهدافها لم تخرج عن الأراضي المقدسة في مكة والمدينة.
وكان تحت سلطان المماليك آنذاك كل من مصر والشام وبلاد الحجاز. فشرع السلطان في تنظيم الدفاعات على السواحل وإنشاء السفن والأساطيل البحرية التي خاضت حروبًا شرسة انتهت بطرد السفن البرتغالية من البحر الأحمر، واستمر المماليك في شن الهجمات على القلاع البرتغالية على سواحل اليمن وعُمان وإيران وشرق أفريقيا إلى غاية المستعمرات البرتغالية في الهند، ورغم هزيمتهم للبرتغاليين في العديد من المعارك ومنها معركة شاول عام 914هـ (1508م)، رجع هؤلاء البرتغاليون فور استجماع صفوفهم وقواتهم فهزموا المماليك في معركة ديو عام 915هـ (1509م)، وتسببت هذه الهزيمة في انكفاء المماليك على البحر الأحمر وحملت الدولة العثمانية بعدهم أمانة تأمين البحار.
توسع الدولة العثمانية
في هذه الأثناء كانت الدولة العثمانية تعيش أوج انتصاراتها، حيث سيطرت على القسطنطينية في عام 857هـ (1453م) في عصر السلطان محمد الفاتح، واستمرت في التقدم بطموح جارف لضم كل الديار المسلمة تحت سلطان العثمانيين، ومع أن بداية العثمانيين والمماليك كانت التحالف والتعاون ضد الخطر البرتغالي وضد غارات المغول بقيادة تيمورلنك وبقايا الصليبيين، إلا أن استمرار الدولة العثمانية في التوسع واقتراب حدودها من سلطان المماليك تسبب في تحويل علاقة التحالف إلى خصومة وعداء كانت نهايته سقوط دولة المماليك مع دخول السلطان العثماني سليم الأول إلى مصر في عام 923هـ (1517م) ليضمها إلى حكم الدولة العثمانية، وكل ما كان تحت سلطان المماليك.
واقع شمال أفريقيا والأندلس
في هذه الحقبة، كان يحكم شمال أفريقيا شرقًا الحفصيون (626-982هـ/ 1229-1574م) ووسطًا الزيانيون (633-961هـ/ 1235-1554م)، وفي المغرب الأقصى حكم المرينيون (642-870هـ/ 1244-1465م).
كما شهدت هذه الحقبة سقوط ما تبقى من الأندلس -أي دولة بني الأحمر- وحاضرتها غرناطة سنة 897هـ (1492م)، ومسارعة الأوروبيين لاحتلال الكثير من المدن الساحلية في شمال أفريقيا، فاحتل الجنويون جيجل منذ سنة 638هـ (1240م)، والبرتغاليون سبتة منذ سنة 818هـ (1415م)، والإسبان مليلية منذ سنة 903هـ (1497م). وشهدت أوروبا في نفس الوقت بداية المد البروتستانتي في ألمانيا وإسكندينافيا وفرنسا وسويسرا.
وبعد سقوط غرناطة آخر معقل إسلامي في شبه الجزيرة الإيْبِيرِيّة بعد أكثر من سبعة قرون من الملك والحضارة الإسلامية الماجدة، احتل الإسبان المرسى الكبير في الجزائر ومدينة وهران و”أرزيو” و”مستغانم” و”شرشال” و”بجاية” و”عنابة”، وفي عام 917هـ (1511م) طرابلس ليبيا ووجدوا لهم أعوانًا من نفس البلاد وخونة لدينهم وأمتهم وأوطانهم، فانتشر الظلم والسرقة والفقر والأمراض وكان الناس يعيشون في استضعاف وخوف.
وأكسب ذلك الإسبان الغرور ببسطهم الهيمنة المطلقة على غربي البحر الأبيض المتوسط واستمروا في مراقبة سواحل شمالي أفريقيا خشية عودة المسلمين إلى الأندلس، وكانت سفنهم تعتدي على سفن المسلمين فتنهبها وتأسر أهلها فلم يكن الخروج في البحر آمنًا بالنسبة للمسلمين.
أسرة بربروسا
أسرة الأخوين بربروسا من أصل تركي، أطلق اسم بربروسا على الابن الأكبر عروج ابتداء ثم ورثه الأخ الأصغر خضر ويعرف بخير الدين، و”باربا” تعني اللحية، و”روسا” تعني الشقراء أو الحمراء باللغة الإيطالية، وهو لقب أطلقه عليهما الإفرنج الذين أذهلتهم بطولاتهما. والدهما يعقوب آغا أبو يوسف التركي، عمل كجندي في فرسان الدولة العثمانية وكذلك كان والده.
استقر به المقام في جزيرة ميديلي بعد فتح القسطنطينية بقيادة السلطان محمد الفاتح، حيث دخلت تحت حكم العثمانيين، واستوطنها الأتراك بأمر من دولتهم، وهي حاليًا ثالث أكبر جزيرة يونانية وتقع في شمال بحر إيجة.
يقول خير الدين عن أسرته في مذكراته: “كان أبي أحد المستوطنين الأوائل، وابنًا لأحد فرسان السباهية، كما كان هو نفسه سباهيا أيضًا، وكان له في منطقة واردار المجاورة لسلانيك أرض إقطاع، وهبت له بأمر من السلطان محمد الفاتح عندما استقر بالجزيرة”.
تزوج يعقوب آغا من مسلمة من مسلمات الأندلس، وأنجبت له 4 أبناء هم يعقوب وعروج وخضر وإلياس، ربتهم على حب الأندلس والوفاء لأمجادها، فكان لتلك التربية الأثر الجلي في مسيرتهم التي سجلها التاريخ الإسلامي باعتزاز. مع العلم أن خير الدين لم يذكر ذلك في مذكراته ويستنبط القارئ من خلال كتاباته أن أمه كانت رومية من سكان جزيرة ميديلي، ما يفسر إتقان عروج للغة الرومية بشكل لافت.
وعمومًا لقد اختلفت الروايات التاريخية في تحديد أصل زوجة يعقوب حيث ذهبت بعض الروايات إلى أنها نصرانية أرملة كاهنٍ قبل أن تتزوج يعقوب الآغا.
نشأ الإخوة الأربعة في ميديلي نشأة إسلامية جادة، واختار أكبرهم وهو إسحاق طريق طلب العلم ودراسة القرآن الكريم والفقه، مع أن مصادر أخرى أشارت إلى أنه الأخ الأصغر إلياس.
وبحسب مذكرات خير الدين فإن أخاه “إسحاق” كان مقيمًا في قلعة ميديلي فيما كان هو وعروج مولعين بركوب البحر، وعلى ذلك اقتنى عروج سفينة للتجارة بينما اتخذ خير الدين مركبًا ذا ثمانية عشر مقعدًا. وأخذ الأخوان يتنقلان ما بين “سلانيك” وجزيرة “أغريبوز” لجلب البضائع وبيعها في ميديلي. لكن طموح عروج كان أكبر من هذه المسافة القصيرة، فغادر ميديلي مع أخيه الأصغر إلياس إلى طرابلس.
عروج بربروسا
القبطان عروج، أو بابا عروج ويعرف أيضًا بعروج ريس، ولد في جزيرة ميديلي في عام 879هـ (1474م)، وكان مولده في ليلة المعراج فسماه والده عروج تيمنًا بهذا الحدث العظيم. نشأ على عشق مغامرات البحر وخاض غماره مبكرًا منذ كان عمره 10 سنوات فقط.
بعد قراره توسيع خط تجارته، خرج مع أخيه إلياس نحو طرابلس لكنه تعرض في البحر لهجوم على يد فرسان جزيرة رودس الصليبيين؛ وهم فرسان القديس يوحنا، ورودس جزيرة تقع في الجهة المقابلة للساحل الجنوبي لتركيا حاليًا، بين قبرص وجزر اليونان وهي تابعة لليونان. وفرسان رودس لقب أطلق على رهبان يحملون اسم “الإسبتارية” أو “فرسان المشفى” منذ أيام الحملات الصليبية [1].
استقروا منذ سقوط عكا 690هـ (1291م) ما بين جزيرة أرواد قبالة طرطوس على الساحل الشامي (حتى 702هـ /1302م) وليماسول في (قبرص)، ثم شنوا حملة صليبية فاحتلوا جزيرة رودس (708-710هـ /1308-1310م) وتابعوا منها القرصنة لاستهداف سفن المسلمين لنهبها وأسر ركابها.
وتشير الروايات التاريخية إلى مقتل إلياس خلال الاشتباك مع فرسان رودس بينما اقتيد عروج أسيرًا إلى جزيرتهم لعدة سنوات، ويحكي لنا خير الدين في مذكراته عن الهم والغم الذي أصابه بعد أسر أخيه، ومحاولته إنقاذه حيث استعان بصديق نصراني يسمى “غريغو” يدير تجارة مع جزيرة رودس ليساعده في فك أسر عروج مقابل مبلغ (18 ألف أقجة (العملة الفضية المحلية))، وبقي ينتظره في بودروم، وفي نفس الوقت كان عروج يسعى لفكاك نفسه فاتفق مع رجل مشهور يدعى “سانتر لو أوغلو” حيث كان يتفقده كلما تيسرت له فرصة، فاتفق معه على تمثيلية لشرائه من الصليبيين، وبالفعل جرت الأمور كما اتفق الرجلان وما لبث أن اشتراه حتى أحبطت الصفقة، ذلك أن “غريغو” كان خائنًا وأفشى سر خير الدين لفرسان رودس، وأعلمهم أن الأخ يسعى لفكاك أخيه، فأرجعوا للتاجر ماله واسترجعوا عروج، ثم صبوا جل نقمتهم وغضبهم على عروج بالتعذيب والأذى، وسجنوه تحت الأرض في زنزانة انفرادية وقيدوه بالأغلال.
وقد تختلف الروايات في ذكر تفاصيل التخطيط لتحرير عروج من رواية لأخرى، ويروي لنا خير الدين كيف مرت الأيام والليالي عسيرة على أخيه الذي قضاها في ابتهال وتضرع وانكسار لله، وعن الرؤية التي رآها في السجن حيث رأى شيخًا مشرق الوجه يقول له:
يا عروج لا تحزن بسبب ما أصابك من الأذى في سبيل الإسلام فإن خلاصك قريب.
وفي اليوم التالي تغيرت نفسية عروج، وإذ بالصليبيين يقررون إخراجه إلى إحدى السفن ليعمل فيها أسيرًا جدافًا. فقال عروج -الرجل الذي اعتاد على الإبحار حرًا-: “إن العمل في الجدف على سطح البحر نعمة بالنسبة لمن رأى الأذى تحت الأرض، يا رب لك الحمد، فقد رأيت وجه العالم”.
وكان والي أنطاليا آنذاك الأمير العثماني شاهزاده قورقود (872-919هـ) (1467-1513م) أحد أبناء السلطان بايزيد الثاني، والأخ الأكبر للسلطان سليم الأول، واشتهر قورقود بإحسانه للأسرى الأتراك، حيث كان يشتري كل عام مائة أسير تركي من فرسان الجزيرة رودس ثم يعتقهم في سبيل الله، ويشاء الله أن يتزامن موعد تسليم الأسرى لذلك العام مع اختيار الرودسيين لنقلهم السفينة التي يعمل عليها عروج، ولم يكن ضمن الأسرى في الصفقة لكنه كان جدافًا في السفينة التي تنقلهم، وكان عروج يتقن العديد من اللغات مثل الرومية، فيتبادل أطراف الحديث مع القباطنة ودارت بينهم أحاديث عن الإسلام فأظهر حبه الشديد لهذا الدين وثباته عليه، وقد راقب ذلك قسيس السفينة، الذي قال للقباطنة:
يجب أن تحذروا مما يقوله عروج، فلا تتحدثوا معه كثيرًا، إنه يبدو متعلمًا ويعرف عن الإسلام أكثر مما أعرف عن المسيحية، إياكم أن تغفلوا فهو ملحد (كافر بالنصرانية) قادر على إضلالكم جميعًا.
وعندما اقتربت السفينة من سواحل أنطاليا رست، وأنزل المئة أسير كما جرت الاتفاقية. لكن في نفس الليلة هبت رياح معاكسة، فقرر القباطنة المكوث للصباح، وخرجوا لصيد السمك في قارب صغير مضيء، إلا أن الرياح ما لبثت أن تحولت إلى عاصفة شديدة، فلم يتمكن القارب من العودة للسفينة، وانتهز عروج هذه الفرصة، في الظلام الحالك، ففك قيده وقفز في البحر وسبح إلى غاية الساحل حيث سجد شكرًا لله بعد أن فك أسره بعد سنتين إلى ثلاث سنوات من الأسر والتجديف لصالح الصليبيين.
وواصل سيره بعد ذلك مشيًا على الأقدام إلى أن وصل إلى قرية تركية، فاستضافته عجوز فيها وأحسنت إليه وأطعمته وسقته وغيرت ملابسه فبقي عندها عشرة أيام، ثم قرر عروج أن يودّع العجوز ليذهب إلى ميديلي وفي طريقه مرّ بأنطاليا، فالتقى برجل شهير يدعى “علي رئيس”؛ صاحب سفينة حربية كبيرة ذات أشرعة هوائية، تحمل تجارته بين الإسكندرية وأنطاليا، فعرف عروج لشهرته ورحب به، ثم جعله قبطانًا على سفينته. ولم يتأخر عروج الذي استلم العمل مباشرة واتجه إلى الإسكندرية وفي ذلك الوقت اتجه خير الدين إلى ميديلي بعد أن عجز عن إيجاد أخيه. لكنه تلقى رسالة من عروج تطمئنه عن حاله وتروي له مغامراته، فسر بها أيما سرور. وكان لهذه الأحداث أثرها في رصيد تجارب الأخوين بربروسا.
دخل عروج مصر، وذاع صيته ليصل إلى سلطان مصر قانصوة الغوري، فعرض عليه أن يدخل في خدمته، حيث كان ينوي بناء أسطول يحمي المسلمين من هجمات البرتغاليين بعد اكتشافهم لطريق رأس الرجاء الصالح كما أسلفنا، فجعل القراصنة يغيرون على السفن الإسلامية المحملة بالبضائع إلى الهند، وسفن الحُجاج، فيستولون عليها ويقتلون ويأسرون، ووصل عدوانهم إلى سواحل المسلمين في الهند وشرق أفريقيا، المطلة على المحيط الهندي، والبحر الأحمر، فتحمس عروج للمشروع وشرع في بناء الأسطول لقيادته.
لكن الروديسيين علموا بالخبر، فأغاروا عليه بأسطول كبير في باياس، فلم يتمكن من حماية السفن لكنه أنقذ بحارته وأدخلهم إلى الأراضي العثمانية، وصرفهم إلى أسرهم ثم عاد هو إلى أنطاليا، وقرر أن يشغل الرودسيين بهجماته، فصنع سفينة ذات ثمانية عشر مقعدًا، وبدأ يشن غاراته على ساحل رودس فقطع أنفاس الصليبيين بالهجمات. وأصبح مجرد الحديث عن ركوب البحر بالنسبة لهم مبعثًا للذعر والخوف.
ولم يهدأ للرودسيين بال حتى جمعوا أمرهم لشن حملة كبيرة ضد عروج، لكنه نجا منها مع بحارته وعاد إلى أنطاليا بينما عمد الصليبيون إلى إحراق سفينته التي كانت راسية في الأثناء في أحد المراسي. وحاولوا استعراض قوتهم بعرض السفينة المحترقة لكن قائدهم صرخ قائلًا: “نعم هذه السفينة لعروج لكنه ليس موجودًا فيها!”.
في هذه الأثناء، تحرك الأمير العثماني قرقود من أنطاليا إلى ساروخان حيث عين واليًا عليها، وكان له خازان يدعى “بيالة باي”، وكان صديقًا مقربًا من عروج، فذكره لأميره قائلًا: “إن عروج رئيس عبد من عبيدكم المجاهدين، وهو يقوم بمجاهدة الكافرين ليلًا ونهارًا، لقد انتصر عليهم في معارك كثيرة، غير أنه فقد سفينته وهو يرغب في أن تتفضلوا عليه بسفينة يغزو عليها”. ولم يكن الأمير قرقود يجهل شهرة عروج، فقبل ذلك واستدعاه، ثم أهداه سفينة حربية بـ 24 مقعدًا مخصصة لمطاردة سفن العدو قائلًا: “ليتمكن من مجاهدة الكفار عليها”.
وعندما جاء عروج لاستلام السفينة في إزمير، وجد في انتظاره سفينتين، إحداهما من الأمير قرقود والثانية من صديقه بيالة باي، باثنين وعشرين مقعدًا. فشكرهما بشدة وخرج إلى فوجا ليمضي ليلته في الدعاء والعبادة والشكر، ثم في الصباح الباكر أقلع بسفينتيه، وتعمّق في البحر ثم بعد بضعة أيام لقي في سواحل بوليا سفينتين من سفن البندقية، فاستولى عليهما، وغنم ما فيهما من أموال، ووزع الغنائم على بحارته، وتوالت بعد ذلك معاركه مع الصليبيين وتضاعفت غنائمه.
استلام السلطان سليم الأول الملك
في هذه الأثناء استلم السلطان سليم الأول الحكم العثماني (918-926هـ) (1512-1520م) وخشي من أخيه قرقود على العرش، حيث جمع العزم على حرب الصفويين وكان يريد التخلص من أي منافسة على العرش أثناء غيابه، فقتله، ولذلك خشي الإخوة بربروسا الذين اجتمعوا آنذاك في ميديلي للاحتفال بانتصارات عروج، من مصير أخيهم لأنه كان مقربًا من قرقود. خاصة أن السلطان سليم الأول كان قد منع الإبحار على سواحل الأناضول وكان قائد بحريته لا يَسمحُ لأحد بركوب البحر كما أمر السلطان.
فخرج عروج إلى مصر سنة 918هـ (1513م) وأخذ في طريقه سبع سفن للصليبيين مشحونة بالغنائم إلى الإسكندرية، وكان يشعر بالحياء من سلطان المماليك لخسارته سفنه الأولى، لكن قانصوة الغوري سرّ به كثيرًا وأحسن استقباله. وشكره على إنقاذه البحارة على الرغم من خسارة 16 سفينة من أسطوله الذي عهد به إليه، واستقر عروج في مصر إلى أن حل الربيع، فاستأذن السلطان في الغزو، فأذن له، وهو الذي قال عنه لما لمسه من أمانته: “إذا كان في هذه الدنيا أحد يرعى حق النعمة ويعرف الفضل لأهله فهو ولدي القبطان عروج”.
ذلك أن عروج كان حريصًا على أن يرسل لسلطان المماليك من غنائمه في البحر. وخرج عروج في عرض البحر ونشط بالقرب من سواحل “جربة” التونسية، وكثرت غزواته وتضاعفت غنائمه.
من جانبها ألقت الخلافات على العرش العثماني بظلالها على البحار، فكان العثمانيون يطاردون البحارة على أنهم من رجال قرقود لارتباط سيرته بالإحسان إليهم، ووصلت أخبار القبطان “باشا إسكندر باشا” (قائد القوات البحرية العثمانية العام آنذاك) لمسامع عروج وإخوته من جور وظلم بالغ في مطاردة قورقود وأصحابه. وفي هذه الأثناء التي كان فيها عروج ينشط عند سواحل جربة، كان خير الدين يتهيأ للخروج من ميديلي إلى طرابلس الشام محملًا بالبضائع للتجارة.
خير الدين بربروسا
واسمه الحقيقي خضر وعرف باسم خضر ريس؛ أي قبطان البحرية، حمل لقب أخيه اللحية الحمراء بعد وفاة عروج. ولد خير الدين بربروسا في عام 883هـ (1478م) في جزيرة ميديلي، لكن تاريخ مولده محل خلاف، حيث تتحدث بعض الروايات عن أنه ولد في عام 871هـ (1466م) وأخرى في عام 875هـ (1470م)، وكان مثل أخيه عروج مولعًا بركوب البحر منذ الصغر وعملا معًا في التجارة البحرية.
وتقول الروايات أن لقب “خير الدين” أطلق عليه بعد عملية إنقاذ المسلمين من الأندلس حيث اقترح عليه من أنقذهم أن يتسمى به، وسنجد هذا الاسم محفورًا على لائحةِ «مسجدِ خيرِ الدينِ» الحجريَّةِ التي تؤرّخُ لبنائه في إسطنبول حيث كتب عليها: “أمرَ ببناءِ هذا المسجدِ المباركِ السلطانُ المجاهدُ مولانا خيرُ الدينِ ابنِ يعقوبَ بو تركٍ بتاريخِ جُمادى الأولى منْ سنةِ ستٍّ وعشرينَ وتسعمئةٍ (926هـ) المصادفِ نيسان/أبريلَ 1520م”.
بينما رجح المؤرخ عزيز سامح التركي أصل التسمية لاختلاط خضر بالعرب في شمال أفريقيا، فلقبوه بخيرِ الدينِ استنادًا لما كتب على مسجده وإلى النقودِ المسكوكةِ باسمه.
خرج خير الدين بربروسا كما أسلفنا من ميديلي إلى طرابلس الشام محملًا بالبضائع للتجارة، ثم رسى مؤقتًا في جزيرة “أياماوري”، فشاهد فيها سفينة بأربعة وعشرين مقعدًا للقبطان “فتاح التركي”، وكانت لجمالها كالحلم بالنسبة لخير الدين الذي كان يعشق السفن ويحلم باقتنائها، وكان صاحب السفينة قد توفي ويريد ورثته بيعها، فاشتراها منهم خير الدين وشعر “أن العالم صار كله له” كما وصف ذلك في مذكراته.
وطاف في البحر المتوسط طولًا وعرضًا إلى أن بلغ جزيرة جربة حيث لقي أخاه عروج. فقال له في إشارة إلى هدفهما بعد الآن: “ما دام الموت هو نهاية كل حيّ، فليكن في سبيل الله”. [2]
لقد كانت هذه العبارة شعار القبطانين اللذين شغل تاريخهما الغزو والظفر ثم يصورهما الإعلام الغربي قرصانين وقاطعي طريق لتشويه التاريخ الإسلامي، وفي المقابل يشغل أذهان أجيال المسلمين ببطولات الأفلام المزيفة.
الفرق بين القرصنة والجهاد البحري
هناك فرق جذري بين القرصنة القائمة على السلب والنهب ومجرد الأذى والقرصنة التي تدخل في الحرب البحرية الدفاعية، بهدف ضرب اقتصاديات العدو. وقد شهد العالم حقبة من تجارة الرقيق التي كانت تستهدف المسلمين في عهد الملك الإسباني شارل الخامس (شاركان) ووسيلته في ذلك فرسان مالطا.
وكانوا قبلها في جزيرة رودس التي فتحها الأتراك في عام 928هـ (1522م)، لذلك جاءت “القرصنة” الإسلامية كرد فعل على القرصنة الصليبية التي عاثت في البر والبحر فسادًا. ويتفق المسلمون وحتى أعداؤهم على أن القرصنة الإسلامية كانت جهادًا في سبيل الله في البحر، وشهدت تطورًا مع نهاية القرن الخامس عشر. وانتعشت أكثر على سواحل شمال أفريقيا التي توفر الرسو والتموين والحماية بفضل صخورها العالية ومراسيها الكثيرة وخلجانها وطبيعتها الوعرة.
ومن المهم الإشارة إلى أن “أصحاب اللحى الشقراء” الأخوان عروج وخير الدين بربروسا، قد خاضا المعركة الكبرى الثانية الحاسمة ضد الصليبيين، في المغرب الإسلامي من تونس إلى أقصى المغرب، بعد المعركة الكبرى الأولى الحاسمة ضد هؤلاء الصليبيين؛ معركة صلاح الدين الأيوبي في المشرق من مصر إلى العراق.
الانطلاق من قاعدة تونس
وجد الأخوان المنطقة التونسية مناسبة لإطلاق نشاطهما في البحر، وكانت تونس عاصمة الدولةِ الحفصيَّة (625-982هـ /1228-1574م) فدخلا على سلطانها أبي عبد الله الحسن المتوكل بالهدايا والأموال، وطلبا منه أن يمنّ عليهما بمكان يحفظ سفنهم للجهاد في سبيل الله، على أن يبيعوا غنائمهم في أسواق تونس فتنتعش التجارة فيها ويدفعوا لخزينة الدولة نسبة مما يدخلهم من الغنائم. فقبل السلطان عرضهم ورحب بهم بسرور حيث كان بأمس الحاجة لقوة تحمي سواحله وتحرك اقتصاد بلاده.
ومنذ عام (919-920هـ/ 1513-1514م) رسا الأخوان بربروسا في ميناء حلق الوادي، واستراحا خلال الشتاء لينطلقا مع الربيع بغزواتهما البحرية التي بارك الله بها فغنما الكثير من الغنائم وتصدوا لتهديدات الصليبيين في البحر وفكوا أسارى المسلمين وأسروا من أسرهم، ثم أرسلا للسلطان نصيبه كما كان متفقًا ووزعوا على البحارة نصيبهم وتصدقوا بالكثير على الفقراء، فرفعت لأجلهم الأكف بالدعاء.
ورغم تضاعف الغنائم وتوالي الانتصارات البحرية إلا أن هذه المعارك لم تكن بلا ثمن، كما يحكي لنا خير الدين عن إحدى معاركهم مع مركب حربي كبير متجه إلى إسبانيا كان على متنه 300 إلى 400 مقاتل، فقال: “رفعنا راياتنا الذهبية وشرعنا في قصفهم، حاولنا سبع مرات الاقتراب من المركب، وفي المرة السابعة تمكنا من الاستيلاء عليه، في هذه المعركة فقدنا مائة وخمسين شهيدًا، وجرح ستة وثمانون من رفاقنا بعد المعركة، وتبين لنا أنه كان في السفينة خمسمائة وخمسة وعشرون شخصًا، أسرنا منه مائة وثلاثًا وثلاثين، وأما الآخرون فقد تم قتلهم، كان من بين القتلى والٍ لإحدى المقاطعات الكبيرة بإسبانيا”.
ومن طريف ما ذكره خير الدين عن هذه الغزوة أنهم غنموا سبعين أو ثمانين ببغاء وعشرون بازيًا فأهدوها جميعًا لسلطان تونس.
وكانت هذه المعركة انعطافة كبيرة حيث ذاع صيت الأخوين بربروسا، فاتفقت ممالك الصليبيين على القضاء عليهما. وقال قادتهم: “لقد ظهر تركيان اسمهما: عروج وخير الدين خضر، يجب أن نسحق هاتين الحيتين قبل أن تتحولا إلى تنين، علينا أن نمحو اسميهما من على وجه الأرض، إننا إذا أتحنا لهما الفرصة سوف يسببان لنا متاعب كثيرة”.
وبينما أطلق التحالف الصليبي حملته على الأخوين بربروسا خرجا هما إلى جنوة لكن الرياح أخذتهم إلى سواحل الجزائر، فرسوا أمام قلعة بجاية، والله إذا أراد أمرًا هيأ له أسبابه.
المغامرة في بجاية وإصابة عروج
عندما لم يعثر الأسطول الصليبي على الأخوين توجه إلى بجاية فوجدهما فيها، لكنهما أدركا بفراستهما أن القتال على الساحل فيه خطورة كبيرة، فقررا ركوب البحر بسرعة، ولما لاحظ ذلك الصليبيون ظنوه الفرار منهم، فطاردوهم إلى عمق البحر وهذا ما كان يريد الأخوان بربروسا، فالتفت سفنهم لترجع مصادمة للعدو مما فاجأ الصليبيين وتعجبوا من هذه المناورة، ثم اندلعت معركة كبيرة بينهم، انتصر فيها الأخوان بربروسا انتصارًا كبيرًا وغنما 4 من السفن من بينها سفينة القيادة وكان المفترض أن يعودا إلى تونس، بعدما فر من تبقى من أسطول الصليبيين واحتمى بقلعة بجاية.
لكن عروج أصر على مطاردة هذه السفن، وهو ما كان يعارضه خير الدين ويرى فيه المخاطرة، مع ذلك أصر عروج على قراره فرجع إلى قلعة بجاية، التي كانت تزدحم بالجنود الإسبان، فهاجمها واندلعت معركة عنيفة كاد أن يستولي خلالها على القلعة لكنه ما لبث أن أصيب بقذيفة في ذراعه الأيسر فأسقطته بينما استشهد ستون من رفاقه وجرح الكثيرون، انتهز حينها الإسبان الفرصة وفتحوا أبواب القلعة للهجوم على عروج وجنوده.
فحزن خير الدين كثيرًا على ما أصابهم وثار غضبًا لينطلق كالأسد الهزبر مع 300 إلى 400 مقاتل، فأعملوا سيوفهم في الجنود الإسبان حتى قتلوا منهم 300 وأسروا 150 آخرين. في هذه الأثناء كان عروج قد فقد وعيه، فاستدرك خير الدين الجنود ورجع بالسفن، لكن هذه المرة رجع ومعه 14 سفينة بدل 4 سفن.
تفاقمت حالة عروج ورأى الأطباء أنه لابد من قطع ذراعه، ولم تكمل فرحة أهل تونس بانتصار الأخوين بربروسا وحجم الغنائم، حيث حزنوا على فقد عروج ذراعه. أما خير الدين فكان يحترق لحال أخيه فقال للجراحين: “من يقوم بإنقاذ ذراع عروج فإني سأكافئه بوزنه ذهبًا أو أهب له عشرة أسرى يختارهم من أيهم شاء”. مع ذلك لم يجد الجراحون من بد إلا قطع ذراع عروج، فقبل بذلك خير الدين مضطرًا وهو يبكي بحرقة كبيرة فلما رآه عروج على هذه الحال من الحزن والشدة قال له:
لماذا تبكي؟ هذا قضاء الله وقدره، إني أحمد الله على أني فقدت ذراعي في الغزو، تكفيني هذه النعمة.
الخروج إلى سواحل الأندلس
استراح المقاتلون فترة الشتاء، واسترجع أثناءها عروج صحته، ليخرج من جديد في الربيع، في غزو جديد، سنة 920هـ /1515م وهذه المرة إلى سواحل الأندلس، حيث كانت غرناطة قد سقطت في يد الإسبان. يقول خير الدين في ذلك: “كان الإسبان يقومون بمظالم كبيرة في حق المسلمين الذين كان الكثير منهم يعبدون الله سرًا في مساجد سرية قاموا ببنائها تحت الأرض، لقد دمر الإسبان وأحرقوا جميع المساجد وصاروا كلما عثروا على مسلم صائم أو قائم إلا وعرّضوه وأولاده للعذاب والإحراق، خلال ذلك قمنا بحمل عدد كبير من المسلمين في السفن وإنقاذهم من أيدي الكفار، ونقلهم إلى الجزائر وتونس”.
وبالفعل لقد سجل التاريخ للأخوين إنقاذهما لعشرات الآلاف من المسلمين الأندلسيين ونقلهم من سواحل الأندلس إلى شمال القارة الأفريقية، ويظهر من مذكرات خير الدين أن عملية إنقاذهم استمرت على مراحل. حيث تمّ نقل 70 ألف مسلم أندلسي في أسطول مؤلف من 36 سفينة، وتم تأمينهم في الجزائر وتوطّنوا فيها في إحدى هذه المراحل.
ويذكر لنا من بطولاتهم في هذه المهمة، إفشالهم خطة هجوم للصليبيين، ذلك عند توغلهم في جزيرة مينورقة، حيث صادفوا نحو 200 مقاتل صليبي، مسلحين جالسين على ضفاف أحد الأنهار، يشربون الخمر، ويأكلون اللحم، أغلبهم فاقد للوعي، فقتل الأخوان بربروسا وجنودهما سبعين أو ثمانين منهم واستولوا على ما معهم من أغنام وعتاد، واكتشفوا بعد استجواب قائدهم أن مهمتهم كانت الهجوم عليهم في البر بعد أن تهاجمهم عشر سفن إسبانية في البحر؛ لمنعهم من إنقاذ المسلمين الأندلسيين، فانقلب السحر على الساحر، وغنم بربروسا من جديد السفن وتحول صيتهم إلى أسطورة.
الإعداد والتنظيم والكرم!
يظهر لنا ذلك الارتباط الوثيق بجزيرة ميديلي فلابد أن يذكرها خير الدين كمحطة استراحة والتقاء بالأحبة، وكان مما يرويه في مذكراته عنها، أنه كان يتقاسم وإخوته فرحة نصرهم مع أهلها، فيقيمون الولائم، ويطعمون الفقراء، ويقومون بختان الأطفال وتزويج العذارى، فيدخلون السرور على قلوبهم، وكان يحرص الأخوان على إسعاد الأرامل والعجزة والمعاقين، كما أغدق البحارة بالمال الذي جنوه من غزوات البحر على التجار فأصبحوا يدفعون 5 أضعاف سعر البضاعة؛ لتعم البركة تجارتهم. وكان هذا السخاء والإحسان محط ترحيب كبير وسبب محبة أكبر لآل بربروسا بين أهالي ميديلي.
لم يكن الأخوان يحبان الاحتفاظ بالمال، فقد كانا ينفقانه كله على حاجات الإبحار أو تجهيزات الغزوات. وكان نظام البحارة يقضي بأن يتكلف الأخوان بطعام البحارة، حيث يتوفر مطبخ خاص في كل سفينة، يقدم اللحم مرتين في الأسبوع. مع ذلك كان البحارة يصرفون على أنفسهم لأن الطعام لم يكن فاخرًا.
وجذبت شهرة الأخوين بربروسا وحسن تنظيمهم ونجاحاتهم الشباب المسلم من كل مكان، فلحقوا بهما من الأناضول والروملي إلى جزيرة ميديلي للعمل كبحارة، فاختار القبطانان أشجعهم وأفضلهم لضمهم إلى صفوفهم.
لقد كان الأهالي يترقبون عودة غزاة البحر محملين بالخيرات، فينالون نصيبهم من الصدقات، وكان يصل سلطان تونس نصيبه حتى أنه كان يثني على الأخوين بربروسا قائلًا: “شرفتم مملكتي، بيّض الله وجوهكم في الدنيا والآخرة، أنتم أسيادنا”. واختصهم بالشكر وقدم لهم الهدايا منها الخيول المجهزة تجهيزًا جيدًا.
ولم يفت الأخوين بربروسا إكرام العثمانيين مع توالي الانتصارات وازدياد الغنائم، فأرسلا الكثير من الهدايا للسلطان سليم، عن طريق محيي الدين بيري رئيس البحرية آنذاك إلى إسطنبول، ومحي الدين كان ابن أخت “كمال رئيس” وهو بحار تركي قاد الأسطول الذي أغار على سواحل إسبانيا بعد سقوط غرناطة بأمر من السلطان بايزيد الثاني؛ استجابة لاستغاثة الأندلسيين. وكان أول من قام بنقل المسلمين واليهود من الأندلس لتوطينهم في الأناضول.
وسر السلطان سليم برسالة الأخوين بربروسا جدًا، ودعا لهما وأثنى عليهما، وكافأهما بسفينتين لكل واحد منهما، زُيّنت مؤخرتاهما بطلاء ذهبي، وشحنهما بالقذائف الجديدة.
واستقبل الأخوان هدايا السلطان العثماني بفرح كبير واستبشار. لكن هذا الكرم العثماني أثر في نفس السلطان التونسي الذي شعر بأن مكانة الرجلين ستنتهي إلى القيادة العليا في الدولة العثمانية، فتسلل إليه الحسد وانقلب تعامله الطيب، وبدأ يجعل مسافة بينه وبينهما. بحسبما ذكر خير الدين في مذكراته يصف بذلك تبدل معاملته معهم.
ومما أشار إليه خير الدين في مذكراته أنه “كلما نوى عروج الزواج ليستقر في ميديلي عزف عنه؛ لشدة حبه للبحر، الذي كان يفوق كل حب ولا يعدله أي شيء آخر في الدنيا”. في إشارة إلى شدة تعلقه بالبحر.
كما أشار إلى رؤية جديدة رآها عروج حيث قال: “لقد رأيت في الليلة الماضية رؤيا صالحة، رأيت ذلك الرجل ذا اللحية البيضاء الذي بشرني بالنجاة عندما كنت أسيرًا في رودس يقول لي: يا عروج توجه إلى الغرب، إن الله قد كتب لك هناك كثيرًا من الغزو والعز والشرف”.
استغاثة أهل الجزائر
مما يرويه خير الدين عن رسالة الاستغاثة من أهل الجزائر؛ أنهم أثناء خروجهم إلى مضيق سبتة (مضيق جبل طارق) لإنقاذ المسلمين في الأندلس، وصلتهم رسالة من مدينة بجاية جاء فيها:
إن كان ثمة مغيث فليكن منكم أيها المجاهدون الأبطال، لقد صرنا لا نستطيع أداء الصلاة أو تعليم أطفالنا القرآن الكريم؛ لما نلقاه من ظلم الإسبان، فها نحن نضع أمرنا بين أيديكم. جعلكم الله سببًا لخلاصنا بتسليمه إيانا إليكم، فتفضلوا بتشريف بلدنا وعجلوا بتخليصنا من هؤلاء الكفار.
شن بعد ذلك الأخوان هجومًا على سفن الصليبيين في البحر وحرروا الأسرى المسلمين وكان هذا دأبهم في كل هجوم على سفن الصليبيين تحرير آلاف الأسرى المسلمين، ثم تقدموا لبجاية، في نحو ألفين وثلاثة وثلاثين بحارًا وعشرة سفن، ومئة وخمسين مدفعًا وآلاف الأسرى للتجديف.
واشتبك الأخوان بربروسا مع الجيش الإسباني المتحصن في القلعة، فاستمرت المعركة بينهم لساعات، قتل فيها الكثير من الإسبان، فلما سمع المسلمون من أعراب البوادي في بر بجاية بتقدم جيش بربروسا، سارعوا للحاق به، لكنهم كانوا يفتقدون للمهارات القتالية، وبعد قتال دام تسعة وعشرين يومًا، شارفت القلعة على الاستسلام لكن نقص المدافع منع من اختراقها.
في هذه الأثناء أرسل الإسبان تعزيزات كبيرة، فانسحب الأخوان بربروسا إلى جيجل وتمركزوا يراقبون حركة التعزيزات، وكانوا قد دخلوها وسيطروا عليها مسبقًا كخطوة مهمة في استراتيجيتهم التوسعية، واختلفت الروايات بشأن تاريخ دخولهم لجيجل، وأكثر المؤرِّخِينَ أكد على أن دخولَهُم جيجل كان سنةَ 919هـ /1514م. والتي كانت محتلة من قبل جمهورية جنوا آنذاك، وساعدهم في فتحها أهاليها والقبائل الساكنة بها. فأكسبهم موقعها الاستراتيجي الإسناد اللازم لتحركاتهم، وأغناهم عن تونس، وسهل فتح بجاية والجزائر لاحقًا.
وأثناء رصدهم للتعزيزات المرسلة للجزائر، لاحت في الأفق عشرة سفن كبيرة مشحونة بالأسلحة والمعدات العسكرية فقال عروج: “هذه نعمة ساقها الله إلينا!”.
وبدأ الهجوم على قوافل التعزيزات بصيحات التكبير والتهليل، وانطلقت معركة كبيرة، انتهت بانتصار الأخوين وغنيمة كل السفن، ولم يبق من جنود الصليبيين سوى ثمانية وسبعين أسيرًا. فاستخدمهم الأخوان للتجديف.
الحرب خدعة!
قاد الأخوان السفن الإسبانية برايات صليبية نحو بجاية، فظن الجنود المتحصنون بقلعة بجاية أن المدد قد وصل، فرفعوا لهم القبعات تحية وفرحة. فما أن فتحت البوابات وهرع الإسبان لاستقبال المدد الزائف، حتى خرج البحارة بصيحات التكبير، فأصاب الإسبان الهلع، واضطربت صفوفهم فما لبثت أن فتحت القلعة وأضحى الإسبان يطالبون بالأمان.
بعد فتح القلعة جاء جميع قادة وشيوخ المنطقة من بجاية ونواحيها مبايعين لخير الدين وعروج فأصبحا ملكين على هذه البلاد. وفرح الأخوان بالنصر وشكرا الله أن أبدلهما عن ملك تونس بدولة جديدة لهما. وكانا قد لقيا فيها من البارود ما يسد حاجتهما لمزيد من الغزو.
وفي الطرف المقابل، حلت الهزيمة كالصاعقة على الإسبان خاصة مع بقاء الآلاف من أسراهم في يد آل بربروسا. وكان ملك الإسبان آنذاك شارل الخامس؛ أعظم ملوك أوروبا في النصف الأول من القرن العاشر الهجري (16 الميلادي).
حكم الجزائر
ذاع صيت انتصارات الأخوين بربروسا فجاءتهم الوفود من الجزائر إلى جيجل يطالبونهم بالنجدة، وخرج عروج لفتح الجزائر. ثم لحقه خير الدين، وفي هذه الأثناء دخل السلطان سليم الأول مصر، بينما سيطر الأخوان بربروسا على مناطق كثيرة في الساحل الأفريقي الشمالي.
ومما سلط عليه الضوء خير الدين في مذكراته أن عروج كان حوله الكثير من المجاهدين العرب والبربر والأندلسيين، لكنهم بلا مهارات قتالية كالأتراك، يصل عددهم إلى ما بين 5 إلى 6 آلاف لكنه لا يعول عليهم في الاشتباكات العنيفة. وكان يرافقه بحارته المحترفون في السفن الأربعين التي حشدها معه وهم فقط من كان يعول عليهم خير الدين.
باغت عروج العدو الإسباني في الجزائر، مستفيدًا من ليلة مظلمة وعاصفة مرعبة، ومن هول المفاجأة بدأ الإسبان يقتلون بعضهم البعض، ثم بدأوا بإنزال كل من على السفن إلى البر. لكن عروج قاد ملحمة بطولية كبيرة، قضى فيها على فرقهم العسكرية، ومن البحر إلى البر استمر القتال شرسًا، حيث تحصن ألفا مجاهد آخر كانوا ينتظرون لحظة الصفر للقضاء على القوات الإسبانية، وعندما حانت، أبيدوا عن بكرة أبيهم، وأخذ من نجا أسيرًا.
وبلغ عدد أسرى الصليبيين في هذه المعركة ألفين وسبعمائة أسير. أما الشهداء فثلاثمائة، ووصل الخبر خير الدين ففرح كثيرًا، ثم خرج مسرعًا للغزو حيث أوكل إليه عروج مهمة مطاردة المنافقين الفارين الذين كشفهم خلال دخوله الجزائر.
واستلم عروج حكم الجزائر بمباركة علمائها وأعيانها وأهلها في عام 922هـ (1516م) وكان استقبالهم له استقبال الفاتحين.
تنس في مرمى الأهداف
بعد فترة من الاستجمام واستراحة المقاتل، ومع إقبال الربيع المزهر، قرر عروج غزو منطقة تنس؛ إحدى مدن الجزائر الساحلية، وكانت تعاني الخلاف والنزاع، فتسلط على أهلها الإسبان، وتزامن ذلك مع رغبة الملك الإسباني السيطرة عليها، مدعيًا أنه يريد إنقاذها.
فخرج له خير الدين في عشر سفن، فما أن رأتهم قوات الإسبان حتى فرت من الرعب، وتركت خلفها أربع سفن، استولى عليها خير الدين الذي نزل بقواته عازمًا على القتال إلا أنه لم يلاق أي مقاومة بل استقبله المسلمون بترحيب كبير، ليبشروه بفرار الإسبان ليلًا وكأن حاله (نصرت بالرعب!) وطالبه السكان بأن يستلم عروج الحكم.
لكن خير الدين لم يطمئن لهذا الفرار، فأرسل ألفي غازٍ يتعقبونهم حتى أدركوهم في عرض البحر فقالوا لهم:
إلى أين المفر أيها الملاحدة المارقون؟ ألا تعلمون أنه لا خلاص لكم اليوم من أيدينا.
وحملوا عليهم بنيران البنادق وضربات السيوف، فانتهت المعركة بنصر مبين وأسر ثلاثمائة وخمسين جنديًا صليبيًا، وقتل البقية. أما الشهداء فبين سبعين إلى ثمانين قضوا نحبهم في هذه المعركة، فضلًا عن الغنائم. واستقبل خير الدين المنتصرين على الساحل بنفسه.
كان لافتًا ذكر خير الدين لقول أمير تنس الذي هرب مع هروب الإسبان حيث قال هذا الأمير: “هنيئًا لملك إسبانيا فهو سينتقم لي من هؤلاء الأتراك” فعلق عليه خير الدين قائلًا: “لقد تبين لنا أن هذا الرجل لم يبق في قلبه ذرة من الإسلام”. وفي الواقع تمكن هذا الخائن من حكم البلاد بدعم الإسبان وبعض الأعراب من حوله، مما أغضب عروج غضبًا شديدًا ودفعه للمسير إليه لكن قبل ذلك جمع علماء الجزائر وقال لهم: “أيها السادة: ما حكم الشرع فيمن تمالأ مع الكفار الإسبان وبايع ملك إسبانيا الذي سار لقتل إخواننا في الدين، وقابل نصحنا بالكنود؟”.
فكان جواب العلماء: “أن قتله واجب ودمه هدر وماله مباح”. ثم كتبوا هذه الفتوى وسلموها لعروج الذي خرج لتنس وضرب عنقه.
وضرب عروج أعناق من ساعده. وكان هذا الأمير ابن أخ سلطان تلمسان، وهي المدينة التي يرى عروج أنها مصدر الفتن، وكانت تلمسان تحت حكم الأسرة الزيانية، حيث آل مآلها لدولة فاسدة يتحكم فيها الإسبان، بعد أن دام حكمها 300 سنة إلى أن قضى عليها البيلرباي صالح رئيس سنة 962هـ (1555م).
واستمر عروج في حكم الجزائر وضم لسلطانه كلًا من تنس وشرشال حيث نظّم هذه المناطق وقوّى اقتصادها وأمّنها ونظفها من الخونة وفي نفس الوقت أحبط المؤامرات التي تستهدفه، كل ذلك وعينه على تلمسان.
استشهاد عروج
كان عروج عازمًا على الاستيلاء على تلمسان، لكنها لم تكن منطقة ساحلية للوصول إليها عبر السفن، وكانت محصنة بجيش من العرب والإسبان. وفتحها كان مهمة شبه مستحيلة، لكن ما ساعد عروج هم أهل تلمسان أنفسهم الذين راسلوه يشتكون له ظلم حاكمهم وعمالته للإسبان، وبايعوه مبكرًا، فدخلها بلا قتال، مما أفزع الإسبان، وكان أول ما فعله قطع العلاقات مع وهران حيث كان هناك القائد الإسباني مع جيشه، وهو القائد الأكبر في أفريقيا، وبقي عروج مع ألف من جنوده في تلمسان وترك البقية في الجزائر لحراستها خشية أن يستغل الأعداء غياب القوات عنها، حيث فوّض فيها خير الدين، بينما بقي عروج يتربص به الإسبان والسلطان الهارب الذي جمع حوله أتباعه وحظي بمدد القائد الإسباني في وهران.
جمع الأعداء عشرات الآلاف من الجند لقتال عروج فأدرك الأخير أنه يجب عليه إخلاء المدينة والتحصن في القلعة. واجتاح جيش العدو تلمسان فعاث فيها فسادًا ثم حاصر القلعة. في هذه الأثناء علم خير الدين بخبر الهجوم والحصار فأرسل ألف جندي تركي وألفي فارس عربي، تحت إمرة أخيه الكبير إسحاق. واجتمعت القوات، حيث دارت معركة شرسة كان فيها النصر لعروج الذي قتل مقتلة كبيرة من الصليبيين.
لكن ملك إسبانيا استنهض قائده في وهران فقام بإرسال ثلاثين أو أربعين ألفًا من الجنود لقتال عروج الذي كان متحصنًا في القلعة، واستمرت المعارك 3 أشهر، وعروج وصحبه في قمة الاستبسال والثبات، فأرسل الإسبان رسولًا للقلعة يقدم لعروج عرضًا بالكف عن القتال والخروج بأسلحتهم على أن يسلموا القلعة مقابل إطلاق سراحهم، فاستشار عروج من معه ثم اتفقوا على تسليم القلعة، لكن العدو أضمر الخيانة، فخرج عروج ومن معه وكان أغلبهم بين مصاب وجائع ومرهق، وبينما كانوا يتقدمون في طريقهم، لحقت بهم فرقة من الإسبان، من نحو عشرين ألف جندي، وطالبوهم بتسليم أسلحتهم فقال عروج:
الموت أفضل من تسليم السلاح، ما الموت حتى نخشاه؟ إن المرء يموت مرة واحدة لكن اسمه هو الذي يبقى خالدًا!.
بدأ القتال على هذه الحال من الضعف والشدة، فقتل عروج الكثير من الإسبان لكن بالمقابل كان يسقط في صفه الكثير من الشهداء، وكان يومًا شديد الحر كاد المسلمون يهلكون من العطش. وتمكن عروج من الوصول إلى النهر فلم يدركه الإسبان. وفي حين كان يمكنه الهرب عبره أوقفته صيحات الاستغاثة من جنوده، فاهتز لها بابا عروج، واندفع الأب الرحيم لنجدة بحارته، فقد كان لهم نعم الأب! ولذلك كانوا يطلقون عليه اسم بابا عروج.
وانغمس القائد الوفي الشجاع بنفسه في صفوف الإسبان، فقتل نحو 100 صليبي إسباني، قبل أن يسقط شهيدًا.
ثم قطع الإسبان الحاقدون رأسه ومثلوا به وأرسلوها للملك كارلوس الذي أشفى غليله برؤيتها وأمر أن يطاف بها بين البلدان. وكان إسحاق قد استشهد قبله ببضعة أشهر في قلعة القلاع وإلياس قبلهم جميعًا. وهكذا لم يبق من الإخوة بربروسا إلا خير الدين حيث قتلوا جميعًا في المعارك مع الصليبيين.
واستشهد عروج ريس في عام 924هـ (1518م) ولم يتجاوز بعد منتصف الأربعينيات من عمره. قضاها في الغزو ومقارعة الصليبيين والخونة وتحرير الأراضي المسلمة ونصرة المستضعفين والفقراء.
وللقصة بقية بعد أن حمل خير الدين بربروسا الراية وقلبه مثقلٌ بالحزن على فراق الأحبة والرغبة في الانتقام من الصليبيين.
وللقصة بقية في المقال التالي “الأخوان بربروسا: خير الدين يحمل الراية ويؤدي الأمانة”
المصادر
- فرسان الإسبتارية
- مقدمة مذكرات خير الدين بربروسا صفحة 2.
- كتاب مذكرات خير الدين بربروس، ترجمة د. محمد دراج.
- كتاب سيرة المجاهد خير الدين بربروس في الجزائر (تحقيق وتقديم وتعليق د. عبد الله حمادي)
- كتاب خير الدين بربروس والجهاد في البحر (1470-1547م) بسام العسلي.
- كتاب الدخول العثماني إلى الجزائر ودور الإخوة بربروس (1512-1543م)