النشرة البريدية

بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.

Subscription Form

الأخوان بربروسا: خير الدين يحمل الراية ويؤدي الأمانة

هذا المقال تكملة للمقال السابق بعنوان “الأخوان بربروسا من البداية إلى استشهاد عروج“.

وصل خبر استشهاد عروج لخير الدين فوقع عليه كالصاعقة لمكانة عروج في قلبه حيث كان قدوته ومثله في الثبات والبطولة، لكن بهذا الفقد اشتد عزمه على أن يضيّق على الكفار في أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط انتقامًا لمقتل آخر إخوته.

فقضى الشتاء في الاستعداد، وشغل نفسه بالعمل كي لا يفكر في عروج، وكان خير الدين سلطانًا على الجزائر بعد أخيه، فجاءته رسالة من ملك إسبانيا يقول له فيها: “لقد مات أخوك وقتل أكثر جنوده فكسر جناحك، من تحسب نفسك حتى تقف في وجه أقوى ملك مسيحي بدون أخيك؟ ماذا يمكنك أن تفعل؟ خذ سفنك ورجالك واخرج من الجزائر فورًا، وإياك أن تطأ قدماك أرض أفريقيا مرة أخرى، إن هذا آخر إنذار أوجهه إليك، سوف أملأ البحر بالسفن وأعود إلى الجزائر قريبًا، فإذا تمكنت منك هناك فلتعلم بأن عاقبتك ستكون وخيمة”.

قال خير الدين في نفسه: “كنت سلطانًا على الجزائر وفي الوقت ذاته كنت عبدًا بسيطًا لدى آل عثمان، بمنصب بايلرباي الجزائر، إلا أنني كنت أعرف في أوروبا باسم ملك الجزائر، وعندما خاطبني ملك إسبانيا بهذا الاستخفاف، كان من اللازم إيقافه عند حده لذلك كتبت له خطابًا في غاية الشدة وأرسلته إليه”. فكان رد الملك الإسباني على خطاب خير الدين أساطيل سدت الأفق، اشتركت فيها جميع الدول الصليبية، ورست سفنهم قبالة الجزائر وأنزلوا قواتهم للبر!

لكن خير الدين كان ينتظرهم ولم يكن غافلًا عما يجمعه الأعداء، فاستقبلهم استقبال من يحب الموت فتوهب له الحياة، وأثخن فيهم بالسيف والقتل، فاستسلم له 700 إلى 800 صليبي من أصل عشرين ألفًا، ولاذ البقية بالفرار، وهزم الإسبان شر هزيمة وعلا ذكر خير الدين في العالم.

بعد هذا النصر المهيب، أمر خير الدين أن تقرأ الخطبة باسم السلطان سليم الأول وأن تضرب النقود باسمه أيضًا؛ لتصبح الجزائر بذلك تابعة لسلطان العثمانيين الذين رحبوا بهذا الانضمام، وكانت هذه الخطوة الذكية رادعة للإسبان الذين يحسبون ألف حساب للدولة العثمانية. وقد لجأ لها خير الدين مضطرًا مع حجم التربص والمكر الذي كان يحيط به والخيانات.

يقول في ذلك خير الدين: “لقد بقيت منفردًا دون أخوتي -الذين استشهدوا جميعًا فوق أرض الجزائر- وقد رأيتم ما فعله بنا صاحب تلمسان من بني زيان واستعانته علينا بغير ملتنا حتى كفانا الله أمره، وصاحب تونس الحفصي الذي لا يرى ضرورة نصرتنا وإعانتنا والذي أسلمنا للعدو بمنع البارود عنا -أثناء حملة بجاية- لولا لطف الله، فالرأي هو أن نصل أيدينا بالقوة الإسلامية -وهو السلطان سليم خان- ونعتمد عليه في حماية هذه المدينة، ولا يكون ذلك إلا ببيعته والدخول في طاعته، والدعاء له في الخطب على المنابر، وضرب السكة -النقود- باسمه، لنتفيأ ظل حمايته، فاستكانوا لذلك ورضوا به وأعلنوا بالدعاء له على المنابر وكتبوا بذلك للحضرة السلطانية، وبعثوا له من السكة باسمه في الجزائر”. [1] وبالفعل قد ألجمت هذه الخطوة الصليبيين إلى حين.

استمر خير الدين في مواجهة الصراعات والفتن التي تشتعل بفعل أعدائه، كما تمكن في الأثناء من فتح مستغانم وإسكان ألفين ومئتين وخمسة وثمانين مهاجرًا أندلسيًا فيها. كان قد أنقذهم من إسبانيا. وقدم لهم الأراضي لاستصلاحها والعمل فيها، وكانوا أهلًا لذلك بما يمتلكونه من حرف ومهارات.

كما سيطر على تلمسان مرة أخرى، وذكر خير الدين في مذكراته خلافه مع سلطان تونس وحليفه ابن القاضي وكيف هزمهم وأخضعهم بعد سلسلة مؤامرات وتربص به وتأليب الناس عليه.

الخلاف مع ابن القاضي

لم يكن أحمد ابن القاضي يملك القدرة على توحيد الجزائر وحمايتها من الإسبان قبل خير الدين، بل لم يكن للجزائر منذ أكثر من مئة سنة دولة ولا حكومة، لكن في عصر آل بربروسا توحدت واستقرت وأمنت وازدهر اقتصادها.

ومما ذكره خير الدين في مذكراته أنه بعد انتهائه من أمر السلطان الحفصي وأثناء عودته للجزائر قطع طريقه أحمد ابن القاضي -وكان على النقيض من والده المحب للأخوين بربروسا- وذلك في مكان ضيِّقٍ حيث وقعت معركة دامية تمكَّن فيها سبعمئةٍ وخمسون بحَّارًا مِن تجاوزِ الكمينِ واستطاعَ خيرُ الدينِ وجيشه الوصول إلى الجزائر.

لكن ابن القاضي كان يؤجج حركات العصيان والتمرد على حكمِ الأتراكِ، واستجاب له أحدُ بحَّارةِ خير الدين واسمه “قَرَه حَسَن” طمعًا في المنصب، لكن خير الدين تنبه لذلك فطرده.

واجتمع لابن القاضي 40 ألفًا، كانت أخبارهم وتحركاتهم تصل خير الدين بفضل جواسيسه المنتشرين. وبالفعل وقعت أول معركةٍ كبيرةٍ بينهما وانتصر فيها خير الدين وقضى على جنود ابن القاضي فلم يتبق منهم سوى سبعمئةٍ، والبقيَّة بين قتيلٍ أو أسيرٍ، ثم جمع خير الدين قادة التمرد وجمعَ علماء الجزائر وسألهم عن الحكم الشرعِي فيهم، واستشار بحارته في ذلك أيضًا، فكانت الخلاصة: القتل. وهكذا أفشل خير الدين ثورة ابن القاضي، وقضى عليها.

لكن كثرة الفتن والدعوات المناهضة لحكم الأتراك أشعرته بأن عليه ترك الجزائر لأمر أهلها، ورأى في الليلة التي أخذ فيها هذا القرار رؤيا فيها الخضر عليه السلام فاطمأنت نفسه لقراره، وعندما بدأ مع جنده بالمغادرة ونقل أسرهم وعوائلهم في السفن اجتمع عليهم أهل الجزائر يناشدونهم البقاء.

وبدأوا بالدعاء على ابن القاضي فخاف الأخير من عواقب ذلك، ثم راسل خير الدين يطلب منه العفو والعودة للحكم، فقال خير الدين للرسول: “ها هي مفاتيح قلعة الجزائر سلمها لسيدك المتلهف على السلطان والملك، وليأتِ إلى الجزائر وليستمتع بالجلوس على عرشها بعد أن ولغ في دماء المسلمين ولننظر كيف يدير أمور البلاد”. وأرسل له الأهالي العلماء يرجونه للعودة لكنه رفض بأدب.

لقد كان خير الدين مضطرًا لهذا الرحيل بعد ما شهده من تشتت شمل الجزائريين وانتشار الفتنة وتمرد قبيلة زواوة بقيادة أحمد بنِ القاضي ومكر السلطان التونسي واستفادة الإسبان من كل ذلك، فلم يجد من بد إلا الخروج حتى يدرك أهل الجزائر حقيقة واقعهم بأنفسهم.

إلى جيجل

نصب تذكاري في جيجل سفينة بابا عروج بمدينة جيجل.

نصب تذكاري لسفينة بابا عروج بمدينة جيجل.

ذهب خير الدين إلى جيجل بعد خروجه من الجزائر سنة 927هـ /1520م، فاستقبله أهلها أحسن استقبال وفرحوا بقدومه، ذلك أن كل ما كان يدخل الجزائر سيدخل بعد الآن إلى جيجل. ما يعني ازدهار اقتصادها، ثم وفد إليه أعيان الجزائر وتونس يبايعونه لتبعيتهم للسلطان سليم وإعلان براءتهم من ابن القاضي.

ثم انطلق خير الدين من جديد للغزو البحري وانتعشت بذلك جيجل وكما كان ينتظر أهلها، أصبحت كل الأرباح تدخلها بدل الجزائر.

وفي المقابل ندم أهل الجزائر على خسارة خير الدين، خاصة بعد أن شهدوا بأنفسهم تدهور أوضاع الحكم في البلاد، وفشله في حكمها وضعف اقتصادهم، فأرسلوا لابن القاضي وفدًا من خيارهم يطالبه باستدعاء خير الدين، فغضب من طلبهم وقتل رئيس الوفد وكان عالمًا من علماء الجزائر. ثم ارتفعت الشكاوى من ابن القاضي ومظالمه، واقترح المقربون من خير الدين عليه تنظيف الجزائر من هذا المتسلط. خاصة أن ميناءها الرائع أصبح في أسوأ حال وسمعة.

يذكر من ذلك اقتراح سنان رئيس الذي شجع بشدة استعادة الجزائر وكان قد خرج بأمر خير الدين لنقل المسلمين من الأندلس للجزائر، وعندما وصل لمينائها منعه ابن القاضي من إنزال اللاجئين وقصفه بدل أن يستقبل هؤلاء المستضعفين المثخنين بالآلام والجراح، فأثار ذلك غضب سنان وبحارته وكان يمكنه هزيمته لكنه خشي عصيان خير الدين.

لم تقف الوفود القادمة من الجزائر تطالب خير الدين بالتدخل وتخليصهم من ابن القاضي فجمع أمره وقوي عزمه وبالفعل دخل الجزائر واسترجعها وهزم ابن القاضي شر هزيمة، ووصف خير الدين قتال رجال ابن القاضي الذين حاولوا التصدي له بالغريب، كونهم كانوا يمثلون أنهم يقاتلون ثم يفرون لأعالي الجبال ويطالبون بالأمان. ثم انتهى أمر ابن القاضي بمقتله على يد أحد شيوخ العرب الذي أرسل برأسه إلى خير الدين. واستسلم كل جنده، فعفا عنهم حاكم الجزائر الجديد، وكان مقام عفو عند المقدرة، ومنهم من انضم إليه. فكان لهذا العفو بركاته.

ولابد من تسجيل الإعجاب هنا بطريقة تفكير خير الدين مع أزمة الجزائر فقد كان من القرارات الذكية التي اتخذها صاحب اللحية الشقراء عند انتفاضة ابن القاضي عليه انسحابه بسلام وترك السلطان لمن ينازعه فيه، فقد كان على ثقة أنه سيفشل في حكم البلاد، وصدق حكمه، فما لبثت بعد ذلك الوفود تنطلق من الجزائر ترجو من خير الدين العودة للحكم بعد أن ثبت فشل ابن القاضي. وانتهى الأمر بعودة خير الدين مكرمًا وبقناعة تامة من الجزائريين بأنه يستحق بجدارة قيادة البلاد.

ثم إن امتلاك القوة وانتزاع الملك أمر، وقيادة الحكم واستمرار التمكين أمر آخر.

ومن يتأمل في التاريخ يجد أن القائد الذي جمع بين القوة والسياسة استطاع أن يحفظ ملكه، أما من اقتصر على القوة فما لبث أن تلاشى ملكه.

إن امتلاك القدرة على سياسة شؤون الحكم عامل فارق في استمرارية التمكين وازدهار الدول. وهذه صفة امتلكها خير الدين بربروسا فمكّن الله له.

ملك الجزائر يحكم بالشريعة ويقتص من الأعداء

خير الدين بربروسا

استقر خير الدين في الجزائر فعمل على إصلاح أمرها وخدمة أهلها وتقوية اقتصادها، حتى تمرد حاكم تلمسان فتوجه إليه وقضى عليه ثم أجلس مكانه ابنه الذي بدوره كان معارضًا لأبيه ومختلفًا معه.

وكان خير الدين يهتم بتطبيق أحكام الشريعة، لذلك يقدر علماء الجزائر ويستفتيهم عند كل حادثة أو قضية، مثل أخيه عروج، ولا يقدم على أمر قتل أو إقامة حد حتى يحصل على فتوى منهم؛ ليكون الناس على بيّنة من الأمر، ومن ذلك أنه استتاب حاكم تلمسان، ثم أعاد قرانه مع زوجاته باعتباره قد ارتد عن الإسلام فبطلت عقود زواجه.

وذكر خير الدين في مذكراته من هذه الحقبة خبر القلعة الصغيرة التي احتلها الإسبان والمطلة على الجزائر، حيث كانوا قبل سيطرته عليها كلما سمعوا الأذان يمطرون الناس بالقصف، لكنهم جبنوا لما استقر خير الدين في البلاد. ولم يكن الأخير غافلًا عن عدوانهم، فأمرهم بإخلاء القلعة فرفضوا، فقصفهم حتى استسلموا له، ثم أخذ خير الدين قائد المدفعية الذي دمر العديد من المآذن وقتل الكثير من المؤذنين، فقال له: “أيها الكافر أنت رام ماهر لقد كنت تدمر المنارة بقذيفة واحدة انظر الآن كيف يكون الرمي الحقيقي!” ثم أمر بوضعه في فوهة مدفع وقذفه في البحر، ثم قتل مساعده وعشرة من جند المدفعية وسجن البقية.

ثم فجر القلعة وأمر الأسرى الـ 30 ألف الذين كانوا تحت يده بجمع الصخور لبناء كاسر أمواج يربط بين القلعة والميناء، بهذا الشكل تمكن من بناء ميناء محمي وجميل للجزائر.

ومما يجدر تسليط الضوء عليه في سياسة خير الدين أنه كان من عادته دعوة أسراه الضباط والقباطنة والولاة والرهبان والفنانين لتبادل أطراف الحديث كأصدقاء، ثم يستقي منهم الأخبار بطريقة غير مباشرة، منها ما يصل إلى حد أسرار القصور، وكان له جواسيس في كل أوروبا وكل الطرقات، مما ساعده في التصدي لكل السفن الإسبانية والاستعداد للمؤامرات.

ولعل جانب الاستخبارات في عمل خير الدين يستحق العناية والاهتمام لأنه سر مهم من أسرار تفوقه على أعدائه.

مساعدة الأندلسيين مستمرة

لم يتوقف خير الدين عن مساعدة الأندلسيين المضطهدين، فبعد أن مرض قائد بحارته سنان كلف إيدين ريس بهذه المهمة قائلًا له: “ولدي إيدين، في هذه السنة سوف تخرج أنت للغزو في غرب البحر المتوسط، عليك أن تمضي إلى أن تتوغل في مضيق سبتة، وفي أثناء عودتك قم باحتلال سواحل إسبانيا دون أن تدع لهم أية فرصة للنيل منك، ثم احمل في سفنك من تقدر على حمله من إخواننا المسلمين اللاجئين إلى جبال غرناطة، فأت بهم سالمين إلى الجزائر، لتكن بركة دعائي تحفظك، في غزوك فلا تقصر في أخذ الأسباب”.

وقد تفانى قادة خير الدين في نصرة الأندلسيين، يذكر من ذلك الكمين الذي نصبه لهم الإسبان بقيادة الأميرال “بورتوندو” حين عودتهم محملين بعدد كبير من اللاجئين أغلبهم نساء وأطفال في عشر سفن سنةَ 936هـ/ 1529م أو 937هـ/ 1530م، فاضطر إيدين إلى إنزالهم على الساحل رغم بكائهم وتوسلاتهم الشديدة؛ خشية التخلي عنهم، ثم خاض القائد البحري المحنّك المعركة مع الأسطول الإسباني فهزمه شر هزيمة وغنم من سفنه ثم فك أسرى الأندلسيين الذين كانوا على متنه، وأعاد تحميل اللاجئين الذين كانوا يتابعون المعركة من الساحل ويلهجون بالدعاء لهم، ثم رجع إلى الجزائر منتصرًا. بعد هذه المعركة أطلق النصارى لقب “الشيطان الضارب” أو “الكافر الضارب” على الأتراك. وأصبح بعدها إيدين رئيس أسطول الجزائر.

الصراع مستمر مع الإسبان

خير الدين بربروسا

استمر خير الدين في قهر الملك الإسباني كارلوس حتى قال لقادته وأميرالاته:

لقد جعلتموني مسخرة بين الملوك فليس فيكم من يستطيع التصدي لبربروسا.

فتصدر قائده “أندريا دوريا” متوعدًا خير الدين بالهزيمة والقتل. وخرج بعد ذلك بأسطول سفن تحول لغنيمة في يد إيدين، قائد خير الدين، حيث حرر ألفين ومائتي أسير سجدوا لله شكرًا على فك أسرهم. كما أسر بالمقابل ألفًا و900 صليبي. وذاع صيت إيدين في الأطلسي، وحظي بدعم الدولة العثمانية. ونلاحظ أن البطولة لم تكن حكرًا على الأخوين بربروسا بل لمع نجم العديد من القادة في عصرهم منهم إيدين وسنان وكمال. وهذا باب يستحق العناية والاهتمام، سير وبطولات فرسان الإسلام في البحار.

الأندلس تستقوي بخير الدين

ارتفع ذكر خير الدين بربروسا وبلغت انتصاراته المسلمين في الأندلس، فقويت قلوبهم وأعلنوا الثورة على الصليبيين الإسبان، فنزل ثمانون ألفًا ممن كان معتصمًا بالجبال لمهاجمة القوات الإسبانية فكبدوهم هزائم كبيرة.

وما كادت أخبار الثورة تصل خير الدين حتى أمر محمد رئيس بالخروج بأسطول كبير لنصرة الثائرين، فشرع فورًا في إمداد الثوار في السواحل الإسبانية.

وفي ذلك التاريخ كان أسطول خير الدين قد شن 21 حملة على إسبانيا، حيث كان ينقذ في كل منها آلاف المسلمين من الرجال والنساء والأطفال من المحارق والسيوف الإسبانية، ينقلهم إلى سواحل شمال أفريقيا. وقاد الأسطول بنفسه في أغلبها كما تولى قيادته إيدين رئيس وسنان رئيس. كل ذلك خلال حكم السلطان سليمان القانوني وهو أمر تكرر في فترة أبيه سليم الأول وجده بايزيد.

قال خير الدين في مذكراته يصف الصليبين الإسبان: “إن كفار إسبانيا لا يشبهون غيرهم من كفار الإفرنج، لقد كانوا في غاية الظلم والغرور، متعطشين للدماء كالكلاب المسعورة.” [2] لقد حمل هذا القائد المسلم الفذّ أمانة تأمين المسلمين ورد عادية الصليبيين الظالمين.

خير الدين في إسطنبول

لقد كان خير الدين يزور السلطان العثماني كلما غنم غنائم كبيرة لكنه كان شديد الحذر في تحركاته يحسب حساب غدر الأعداء فيؤمّن المدن جيدًا قبل أن يتحرك للقاء السلطان. واستمر في غنيمة الأساطيل الإسبانية، وتقديم الغنائم للسلطان العثماني، وكان في كل مرة يدخل فيها إلى إسطنبول غانمًا مظفرًا يستقبله أهالي إسطنبول يفوق عددهم 200 ألف شخص عند المرسى. ويتم الاستقبال في عرض مهيب، حيث يعرض خير الدين الأسرى من الأدميرالات وكبار قادة جيوش أوروبا والولاة والأعيان من بينهم أقارب الملك الإسباني الذين أسرهم في غزواته.

فزاد ذلك من رفعة مقامه في عين السلطان العثماني سليمان القانوني الذي جعله قائد أسطول الدولة العثمانية بلا منازع في عام 939هـ (1533م). وكان السلطان العثماني ينوي غزو إسبانيا وبدأ الترتيب على هذا الأساس مع خير الدين وسلطان حلب.

لقد حمل خير الدين همة عجيبة، حتى أنه كان يرغب في غزو أمريكا وقد استأذن الصدر الأعظم إبراهيم باشا في ذلك عند لقائهما في حلب لكنه لم يتحمس لطلبه وطلب منه التركيز على المتوسط ومناطق نفوذ العثمانيين.

وأذهل خير الدين حجم الإمكانيات التي تتمتع بها الدولة العثمانية في مجال الصناعات البحرية، وأبهره مصنع السفن العثماني الذي كان يحتضن مئة ألف عامل، يعملون كخلية نحل في صناعة السفن. وكان الكثير منهم من الأسرى لكنهم يحصلون مقابل جهودهم على أموال تمكنهم من فداء أنفسهم، فيتفانون في العمل، وبعد أن درس خير الدين جميع جوانب هذا الميدان، أجرى إصلاحات على الأسطول وبدأ بشن هجمات عملاقة بحجم أسطوله فكبرت معها أحجام الغنائم وأعداد الأسرى لكن كان طبيعيًا أن يصنع ذلك له الحساد.

وكما وصف ذلك خير الدين، فإن حساده لم يسبق لأحد منهم أن فتح قلعة واحدة في حياته، ولا أخذ سفينة واحدة، ولذلك لم يتمكنوا من أذيته أو إسقاط هيبته.

مجزرة تونس

توطد ملك بربروسا في عمق تونس خاصة بعد الوحشة التي فرقت بينه وبين حاكمها الحفصي بسبب التقارب مع العثمانيين، فلجأ الأخير للملك الإسباني؛ ليخرج الأتراك من تونس فتجهز له خير الدين. ولكن وقعت الخيانة التي لم تكن في الحسبان؛ حيث تم الإفراج عن آلاف الأسرى الإسبان في تونس فاستولوا على المدينة بوحشية تزامنًا مع سقوط قلعة حلق الوادي التي كان يحاصرها الملك كارلوس الذي خرج بنفسه مع خيار قادته لهذه المعركة الكبيرة.

ففقد خير الدين في هذه المعركة آلاف البحارة واستشهد قائده الثقة إيدين رئيس.

لكن الأكثر إيلامًا، كان ينتظر تونس بعد دخول الإسبان الصليبيين حيث سطروا المجازر بحق العزّل، فذبحوا 30 ألف مسلمٍ عربيٍ، وأسروا عشرات الآلاف من النساء والأطفال كرقيق، ودمروا المساجد والمدارس وحتى المقابر، ونهبوا القصور. كما حرقوا آلاف المخطوطات والكتب في مكتبات تونس، فقضوا على ثروة علمية وفنية نادرة. ولأنهم فشلوا في أسر خير الدين أفرغوا حنقهم على الشعب المسكين فتحولت البلاد إلى بلاد غارقة في الدماء.

قال عن هذه المجزرة ابن أبي الضياف: “إن ثلث سكان تونس تمت إبادتهم وأسر ثلثهم وطمست معالم المدينة تمامًا. [3] وخضعت تونس والحفصيون للإسبان لكن بقيت المناطق الجنوبية وجميع السواحل الشرقية خاضعة للعثمانيين.

فشن على إثر ذلك خير الدين هجمات انتقامية ثقيلة على قلاع الإسبان امتدت حتى الأطلسي، وسلم كالعادة خمس الغنائم للخزانة العثمانية مع هدايا ثمينة للسلطان والوزراء.

الحملة العثمانية على إسبانيا والبندقية

خير الدين بربروسا

أطلقت الدولة العثمانية حملة على إسبانيا والبندقية وفي ذلك الوقت كان صالح رئيس يقود سفينته من الهند إلى إسطنبول فالتحق بهم، ورصد الإسبان حملة العثمانيين فجمع الملك كارلوس جميع أساطيل البندقية وجنوة والبابوية وفلورنسا ومالطا، وجعلها تحت إمرة أندريا دوريا، يقول خير الدين واصفًا هذا الجمع: “في حياتي لم أر ولم أسمع بل حتى في كتب التاريخ لم أقرأ عن أسطول بهذا الحجم!”.

كان أسطول التحالف الصليبي يشمل أكثر من 600 سفينة، ويحمل 60 ألف جندي! بعض سفنه كانت تقل 2000 جندي! بينما كان لدى خير الدين 122 سفينة، مع 20 ألف جندي فقط.

معركة بروزة التاريخية

كان هذا الحشد مقدمة لمعركة بروزة التاريخية التي جرت على السواحل الإيطالية سنة 945هـ (1538م) بين قوتين بحريتين غير متكافئتين.

وكان خير الدين بربروسا مع بداية الحملة العثمانية قد تمكن من فتح ثمانية وعشرين جزيرة وسبع قلاع خاضعة لجمهورية البندقية، ثم جعل على كل منها حامية ليغير بعد ذلك على أغريبوز ويأخذ 20 ألف أسيرًا أرسلهم جميعًا إلى إسطنبول.

وأمام هذا التقدم جمعت أوروبا أسطولها لملاقاته، فالتقى الجمعان عند قلعة بروزة التي تقع في الزاوية الشمالية الغربية من خليج صغير، لقد كان مدخلها ضيقًا جدًا، لا يمكن للعدو أن يمر فيه قبل تدمير مدافع الأتراك المنصوبة على أسوار القلعة. وكان تحقيق ذلك أمرًا في غاية الصعوبة.

وكان برفقة خير الدين قائده تورغوت رئيس، فتحركا بسفينتهما أمام أسطول الأوروبيين، فلما شاهد أندريا ذلك، أصابه الذهول من هذه الشجاعة. وفي اليوم التالي تواجه الطرفان من جديد وكان مع خير الدين ابناه؛ ابنه الحقيقي حسن رئيس وابنه المعنوي حسن رئيس الثاني، والشيخ سنان رئيس، وجعفر رئيس وشعبان رئيس وصالح رئيس، وسيد علي رئيس؛ الذي وصفه خير الدين بالعالم والشاعر الكبير. وهو الذي أملى عليه مذكراته فكتبها بخط يده. وبقي تورغوت رئيس في الأسطول الاحتياطي في المؤخرة.

ومع أن أسطول الصليبيين كان ضخمًا إلا أن هذه الضخامة أكسبت خير الدين نقاط تفوق عليه، فقد كان بإمكان خير الدين التحكم في جميع وحدات أسطوله، على عكس أندريا الذي كان عاجزًا عن إدارة كل هذا الكم من السفن.

كذلك الجنود الأوروبيون القادمون من مختلف الدول الأوروبية لم يكونوا يفهمون لغات بعضهم البعض كما لم يكن عدد منهم يحب القائد دوريا.

من جهة أخرى كان مدى مدافع العثمانيين أبعد من الصليبيين، إضافة إلى أن موقع خير الدين الاستراتيجي كان يسمح له بالمناورة بشكل أسهل، وكان أسطول خير الدين سريعًا بالمقارنة مع الأسطول الأوروبي البطيء، مما سهل عملية اختراقه وقصفه، وكما وصف ذلك خير الدين في مذكراته، كان رفاقه البحارة خفيفين لكن الكفار كانوا مثقلين بالدروع التي تعوق حركتهم. لذلك كان جنود خير الدين يقتلون الصليبيين برشاقة وخفة.

لكن التفوق الأكبر قال عنه خير الدين: “كان في قوة إيماننا وتبعيتنا لمولانا سلطان العالم” في إشارة لسلطان الدولة العثمانية.

وكانت الأحوال الجوية في صالح المسلمين في هذه المعركة فقد وقف خير الدين قبل المعركة يتضرع لله في ذلة وانكسار عندما شاهد ملامح عاصفة مقبلة، لكن بعد الدعاء، هدأت بوادرها وتلاشت.

أتعب خير الدين دوريا بالمناورات المباغتة، وعندما حلّ الليل أطفأ أنوار السفن، في ليلة مظلمة، وخلال ذلك كانت نصف سفن التحالف الصليبي في قاع البحر جراء القصف العنيف الذي شنّه خير الدين عليهم، وكان نصرًا مدويًا ذلّت له رقاب الصليبيين من الصدمة ففروا لا يلوون على شيء. وبذلك انتقم خير الدين لمقتل إخوانه على يد الصليبيين ومرغ أنف التحالف الصليبي.

وعمت الاحتفالات كل ديار المسلمين والتهاني والمباركات، ولكن خير الدين كان يعشق الغزو، فحمل ابنه وصهر ابنه تورغوت لعرض البحر غزوًا في سبيل الله من جديد!

وأعقب معركة بروزة السيطرة العثمانية على البحر الأبيض المتوسط لأكثر من 30 عامًا.

حملة شرلكان على الجزائر

خير الدين بربروسا

كان حسن باي ابن خير الدين يشرف على شمال أفريقيا بالنيابة عنه، وعندما سمع خير الدين بأن الإسبان ينوون الهجوم على المنطقة باغتهم بهجوم على جبل طارق فاستولى على قلعة لهم لتصبح قاعدة لغاراته على الأراضي الإسبانية، فلم يجد الملك كارلوس الخامس هابسبورغ -ويعرف باسم “شارلكان”- من حيلة إلا إرسال رسالة يائسة لخير الدين قال فيها:

“إن تنزيلك من منصبك كملك للجزائر لتكون بيلربايا عليها حسبما تقتضي به التقاليد العثمانية، يعتبر إهانة بالغة لك، وها أنا ذا أعرض عليك أن تتخلى عن خدمة السلطان سليمان، على أن أجعلك ملكًا وحيدًا على كل البلاد الأفريقية الواقعة بين البحر الأحمر والمحيط الأطلسي، وليكن معلومًا لديك بأنني لا أريد أن تكون حليفًا لي، بل يكفي أن تكون صديقًا لي، وتقطع صلتك بالعثمانيين، فهذا كل ما أريده منك”.

فعرض خير الدين الرسالة على العثمانيين فنصحوه بكسب الوقت بالمفاوضة حتى يتبين لهم نوايا كارلوس. وبالفعل أخبر الملك الإسباني عن استعداده للتفاوض، ففرح جدًا بقبوله خيانة العثمانيين.

وأرسل الإسبان مندوبين لمفاوضة خير الدين، كان معهم طبيب يهودي من رعايا الدولة العثمانية يدعى روميو. فجاءوا إلى ابنه حسن باي، وبعد المفاوضات قام حسن باي بطرد الرسولين الصليبيين من الجزائر واعتقل اليهودي باعتباره أحد رعايا العثمانيين فأرسله لإسطنبول. فأصابت الدهشة الإسبان، مع ذلك كرروا طلبهم هذه المرة بشكل مباشر مع ابن خير الدين؛ حسن باي.

واستمرت 3 سنوات منذ معركة بروزة في المناورات السياسية بين الإسبان وآل بربروسا انتهت بحملة جديدة على الجزائر. لكنها باءت بالفشل، فقد كانت استخبارات خير الدين قوية، وتسلل العديد من البحارة الذين يتقنون الإسبانية بين جنود الصليبيين فينقلون أخبارهم ويحبطون تحركاتهم، ثم بعد الاشتباك، انتهت المعركة بينهم بقتل 20 ألف صليبي والاستيلاء على السفن والغنائم، وساعدتهم الأجواء العاصفة آنذاك.

وقال خير الدين للصليبيين الإسبان على إثر هذا النصر الجديد الذي سجل بتاريخ 948هـ (1541م): “إن هذا الظالم العائد إلى بلاده يجر أذيال الخيبة، قد قام بإحراق آلاف البشر في العالم الجديد، فأراد هذا الملعون الكافر أن يتسلط على الجزائر لأنه ظن بأنها مثل العالم الجديد، الويل لبلدة مسلمة تقع في يد هذا الظالم، ترى كيف سيكون مصيرها؟ لقد ضرب لنا الكافر مثل السوء عن ذلك في تونس قبل سنوات مضت!” في إشارة إلى الإبادة العرقية للهنود الحمر في أمريكا، ما يدل على أن خبرها كان منتشرًا.

ولم يتحمل الملك الإسباني ما حصل معه، وكان ممن فقدوا كل شيء في هذه المعركة ولم يتبق لهم إلا ذبح خيولهم ليأكلوا لحمها، فذبح فرسه الثمينة ليعيش! واضطر لإلقاء تاجه عند فراره في البحر. بل كاد أن يقع في الأسر لولا تداركه فرسان مالطة وكان عدد رجال حسن باي قلة. وكثير من التفاصيل لم تذكر عن هذه المعركة الرهيبة التي سرت الأشعار تمجد نصر المسلمين فيها.

ومما قيل فيه:

سلوا شرلكان كم رأى من جنودنا *** فليس له إلا هُمُ من زواجر

فجهز أسطولًا وجيشًا عرمرمًا *** ولكنه قد آب أوبة خاسر

وشارك هذه الفرحة حتى اليهود الذين كانوا يبغضون الإسبان، بعد حملة الاضطهاد في الأندلس، فوجدوا النصر والأمن على يد المسلمين ونظموا في هذا النصر القصائد! واستمروا في إحياء ذكرى النصر إلى غاية القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر ميلادي).

بعد هذا النصر العظيم أُطلق على حسن باي اسم “الغازي”، وكان بالفعل خير خلف لخير سلف، فقد قاد هذه المعركة بنفسه ولم يكن معه والده القائد الفذّ خير الدين. وتم ترقية حسن باي إلى مرتبة بايلرباي على الجزائر، وكان والده أول بايلرباي على هذه البلاد.

ومما زاد هذا الانتصار عظمة، أن هزيمة الجيش الصليبي الضخم كانت على يد قائد لواء بحرية! وليس على يد قائد عظيم بشهرة وصيت. لذلك قال خير الدين: “إن هذه الهزيمة سوف تحفر في ذاكرة التاريخ على أنها من الحوادث النادرة التي قلما تتكرر”.

ولكثرة الأسرى الذي أسرهم حسن باي في هذه المعركة نزلت أسعارهم بشكل كبير في سوق الرقيق. أما الملك كارلوس فأمضى شهورًا معتكفًا في الكنيسة لا يغادرها إلى أن مات من شدة القهر.

حملة خير الدين على فرنسا

لقد أصبح اسم خير الدين بربروسا وأسماء قادته مبعث ثقة وشهرة وعنوان كل من ينشد النصرة، وبين عامي 950هـ و951هـ (1543م و1544م)، استنجد به حتى الفرنسيون حيث خرج خير الدين في حملة على فرنسا لتلبية نداء استغاثة ملكها فرنسوا الأول لتحرير مدنها من الاحتلال الإسباني، العدو اللدود لآل بربروسا. وفرصة لكسره وإذلاله، فعسكر خير الدين في مرسيليا وتمكن على إثر ذلك من طرد الإسبان من تولوز ونيس وألحق بهم هزيمة تاريخية أخرى. واستمر في انتصارات ونجاحات إلى أن لقي ربه.

نهاية الرحلة

خير الدين

لقد طاف خير الدين برايته البحار وقضى عمره فوق الماء، يتحالف مع القوى المسلمة التي حملت نفس الهم: تأمين المسلمين في صراع دامٍ مع الصليبيين، وإحباط المؤامرات والكمائن، وإقامة سلطان الإسلام، وذلك ما عكسته رايته التي طالما رفرفت بعزة على أسطوله، واشتهر بها في الحروب والمعارك، حيث كتب أعلاها الآية القرآنية من سورة الصف:

(نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

تليها عبارةُ «يا محمد». ثمَّ أسماءُ الخلفاءِ الراشدينَ الأربعةِ: أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي على الجانبين. وفي منتصفِ الرايةِ رسم لسيف علي بن أبي طالبٍ ذو الفقار. ثمَّ نجمة سداسية في الأسفلِ تعرَفُ باسمِ خاتمِ سليمان. أو تكتفي الراية بكتابة عبارة «لا إلهَ إلا اللهَ محمدٌ رسولُ اللهِ».

ولاشك أن مثل هذه الأحداث العظيمة رافقها الكثير من التفاصيل الدقيقة، والخيانات والتضحيات مع التنبيه لبعض المبالغات من الرواة الذين يدخلون فيها خرافات الصوفية، ولعل من أبرز الدروس التي تركها الأخوان بربروسا في تاريخ الجهاد البحري؛ هي طرائق القتال في البر والبحر، التي تحاكي أسلوب حرب العصابات، حيث تعتمد على مرحلة الاستنزاف ومرحلة الهجوم الشامل، إذ كان من المحال أن يجابه الأخوان بما يملكانه من عدة محدودة التفوق الذي تميز به التحالف الصليبي إلا بهذا الأسلوب الذي يعتمد على حركة مجموعة خفيفة توجه ضربات عنيفة ومباغتة للعدو ثم تنسحب قبل أن يستفيق من الصدمة مذهولًا! ومع استمرار هذه الضربات استنزفت قدرات العدو المادية والمعنوية قبل أن يواجه الهجوم الشامل الذي يقضي عليه تمامًا.

ومثل هذه التكتيكات الحربية تتطلب كفاءة قيادية فذّة وصبرًا وبصيرة. وفي المحصلة فلا بد أن انتصارات الأخوين كانت محصلة طبيعية لانسجام العوامل الثلاثة: دعم الشعب المجاهد، والقيادة الراشدة، والعقيدة القتالية الإسلامية الرائدة.

ومما يجدر تسجيله كذلك، أن خطابات قادة الإسلام للأعداء عبر حوادث التاريخ خُطّت بحبر العزة.. فلابد أن تأسرك! قلوبهم كمدافع الحق، تحسم المعركة من مجرد رسالة يتلقاها العدو فترتعد لها فرائصه! ولا يمكن لأمة أن ترجع لسابق عهدها من الريادة والتفوق إلا حين يصبح أبطالها يشغلون أذهان الأجيال لا أبطال أعدائها! وهذه وصية أخرى يجب العناية بها مع الأجيال لتناقل ميراث البطولات التي يزخر بها التاريخ الإسلامي.

لقد توفي خير الدين عام 953هـ (1546م) وقد ناهز الثمانين من عمره، ودفن في إسطنبول بمحاذاة مضيق البوسفور، في نفس المكان الذي اشتراه ليدفن فيه. وخلفه ابنه حسن أميرًا للبحار. وذاك الشبل من ذاك الأسد.

وختامًا، لقد ترك آل بربروسا خلفهم ميراثًا من التضحيات والقيادة الفذّة والانتصارات لتقتدي بها الأجيال ولتجتمع حول حقيقة أن مصدر القوة كل القوة في كل صراعات الحق والباطل هو الإيمان والجهاد في سبيل الله لإقامة سلطان المسلمين الواعد.

المصادر
  1. كتاب خير الدين بربروس والجهاد في البحر (1470-1547م) بسام العسلي ص 108
  2. ص 158 مذكرات خير الدين بربروسا
  3. أحمد بن أبي الضياف إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان
  4. كتاب مذكرات خير الدين بربروس، ترجمة د. محمد دراج.
  5. كتاب سيرة المجاهد خير الدين بربروس في الجزائر (تحقيق وتقديم وتعليق د. عبد الله حمادي)
  6. كتاب خير الدين بربروس والجهاد في البحر (1470-1547م) بسام العسلي.
  7. كتاب الدخول العثماني إلى الجزائر ودور الإخوة بربروس (1512-1543)

النشرة البريدية

بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.

Subscription Form

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x