إن المتأمل في فرائض الإسلام ومقاصده، وعِظَم الفقه الذي يقوم عليه ونبل أهدافه، يدرك أن هذا الدين الجليل جاء ليقيم بنيانين عظيمين متكاملين، لا يقوم أحدهما إلا بالآخر، ولا يكتمل أداء المسلم إلا بالعمل على إقامتهما معًا.
بنيانان يشد بعضهما بعضًا
فأما الأول، فهو بنيان الإنسان المسلم الصالح الذي يلتزم شريعة ربه في نفسه ومع من حوله، بتصحيح عقيدته وضبطها وفق هدى الكتاب والسنة، وبأداء فروض دينه كالصلاة والصوم والزكاة، وبالاستقامة بالتقوى والمجاهدة وتجنب المعاصي والذنوب. وهو في كل ذلك مرتبط بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وبالدار الآخرة. فإن لم يفعل، وأهمل واجباته وغفل عنها؛ غرق في جاهلية من الظلمات، واستمر في اضطراب وتخبط يعيش معيشةً ضنكًا، فلا يطمع في النجاة من هذه التيه إلا بالعودة لنور الله والالتزام بهدى الإسلام العظيم.
أما البنيان الثاني، فهو بنيان دين الله في الأرض، وإقامة شريعته التي ارتضى لعباده، فيعمل هذا المسلم -الذي أُعدّ قلبه في عملية البناء الأولى- لحمل أعباء هذه المهمة، والحكم بشريعة الله وتحقيق العدل وإزالة الطغيان والفساد والظلم، والدعوة لله حتى يسود نور الإسلام الأرض وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. ولا يكون ذلك إلا بتسخير هذا المسلم حياته للإسلام، عملًا لقضية دين الله وإقامةً لعقيدته وحكمه بين الناس، وذلك مفهوم خلافته في الأرض.
تصورات خاطئة
ومما انتشر بين الناس الفهم الخاطئ لقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (المائدة: 105). فيحملها بعضهم على اختزال العمل في الإسلام في عبادات الفرد، وما يتعلق بذاته ودائرته الضيّقة، شعاره: “نفسي نفسي” و”للبيت رب يحميه”.
ويذهب بعضهم لأبعد من ذلك بتوهم أن النصر والتمكين سيحلّ على المسلمين ككرامة، كصناعة من القدر بلا أي عناء، بدون بذل الجهد في تحصيل أسبابه؛ فيتواكل ويكسل ويشاهد النوازل لا يحرك فيه ذلك ساكنًا ولا يستنفر فيه ضميرًا.
ويعتقد البعض أن القيام برسالية الإسلام وظيفة خاصة بالأنبياء، وينسى أو يتناسى أنه لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ما وصل له الإسلام أبدًا. فقد توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خاتم الأنبياء جميعًا، ولو لم يحمل بعده أمانة الدين ورسالته الصحابة -رضي الله عنهم-، ثم من خلفهم من التابعين والصالحين جيلًا بعد جيل؛ ما وصلنا من الإسلام شيء! ومن يتنصل من مهمة تبليغ الدين بحجة أنها مهمة الأنبياء، يناقض عظمة هذا الدين والحكمة في جعل نبي الله محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء. فمن يحمل رسالته هي أمته، وكل فرد مسلم منها إلى قيام الساعة.
قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب”، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا، ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب”. (صحيح أبي داود).
لا رهبانية في الإسلام
لقد جاء الإسلام في وقت اشتهرت فيه رهبانية النصارى؛ فاعتاد العرب آنذاك على رؤيتها كأعلى مستوى من التزام العبد بدينه، إلا أن الإسلام هدم هذا النموذج الراكد، ليضع محله نموذجًا للحركة والبركة. قال تعالى (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد: 27)
والرهبانية تعني انقطاع المرء عن الناس وعكوفه على العبادات الفردية، يقيم العقيدة في نفسه فقط ولا يبالي بمن حوله. فجاء الإسلام وصحح هذه البدعة وأمر هذا المؤمن الملتزم بشريعته، بإقامة بنيان الإسلام في الأرض. ولأجل ذلك وضع أركانًا لفريضة العمل لدين الله في مقدمتها مبدأ التكليف بتطبيق شريعة الله، وأحكامًا لا تكتمل إقامة الإسلام في أرض إلا بإقامتها كاملة؛ ليحلّ العدل والقسط ويُؤتى كل ذي حق حقه، فيأمن الناس وتزدهر المجتمعات بشريعة الرحمن. ثم توعد المتخلف عن إيفاء هذه الفريضة حقها، بسنة الاستبدال.
وبذلك أحدث الإسلام حراكًا ضخمًا جبارًا في حياة البشرية، وحوَّل كل قوة فردية فيها لقوة ضاربة في الأرض تقيم الحق وتهدم الباطل. وكلَّف كل مسلم بالسعي لإنشاء هذا الصرح الضخم من بنيان الإسلام. وتوعد المتخلف عن واجبه في إقامة البنيانين -بنيان المسلم الصالح وبنيان الإسلام في الأرض- بالعذاب وسوء العاقبة.
في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني: “إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة”، وفي الحديث: “نهى رسول الله عن التبتل”.
ولا شك أن هناك فرقًا كبيرًا بين عناية المرء بصلاته وصيامه وصدقاته وبين عنايته بالعمل لدين الله ونشر دعوته والذبّ عن حرماته. فالأولى لا تتطلب من المرء إلا مجاهدة نفسه على العبادة، لكن الثانية يتجشم صاحبها مجاهدة أعداء الدين من كل صنف وملة، ويدفع في سبيل ذلك ضريبة نصرة الحق ومواجهة الباطل. والمطلوب من المسلم الجمع بينهما، فلا يمشي على طريقة اليهود وقصورهم ليتهرب من مهامه وواجباته الشاقة ويبقي على تلك السهلة، حتى قال عنهم الله جل جلاله (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (البقرة: 85).
فريضة العمل للإسلام في القرآن والسنة
إن الأدلة على فريضة العمل للإسلام كثيرة جدًا في القرآن والسنة. ويكفي تدبر قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)) (التوبة).
فهنا آيتان عظيمتان، بدايتهما بخطاب موجه للذين آمنوا فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ثم نهايتهما بالتحذير من عذاب النار للذين آمنوا فقال تعالى: (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، فكان العذاب جزاءً لترك هؤلاء المؤمنين التكليف بالنفير فلم يغنِ عنهم أداء عباداتهم الفردية ولم ينجهم من النار!
ونجدها في قول الله -جل جلاله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)) (الصف).
فهذا التكليف للنجاة من النار بالإيمان بالله والجهاد في سبيله بالأموال والأنفس، وإلا فإن العاقبة العذاب الأليم وسنة الاستبدال. قال تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) (محمد: 38).
هذه الآيات العظيمة التي يتصدع لها القلب، وجهت للمؤمنين -لمن حقق الإيمان والإسلام في نفسه ولكنه لم يحققه في الأرض- فكان الوعيد الشديد لإهمال بنيان الإسلام في الأرض وأداء فريضة العمل لدين الله.
الصفات الستّ وإلا فسنة الاستبدال
ولابد من الوقوف بخشوع عند قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54).
فهذه الآية الجليلة ذكرت ست صفات تمنع سنة الاستبدال في الناس.
- فأول صفة: يحبهم الله -جل جلاله-.
- وثاني صفة: يحبون الله -جل جلاله-.
- وثالث صفة: أذلة على المؤمنين.
- ورابع صفة: أعزة على الكافرين.
- وخامس صفة: يجاهدون في سبيل الله.
- وسادس صفة: لا يخافون لومة لائم.
ست صفات يحملها من يقوم بأمر دين الله، من يقيم فريضة العمل للإسلام. فإن عُدمت حلّت سنة الاستبدال! ولن تجد لسنة الله تبديلًا ولا تحويلًا، فسنن الله لا تحابي أحدًا.
فالإسلام حالة متحركة ليست راكدة كما في الحديث عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ” … ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب”. وإن كان الحديث ضعيفًا، إلا أن معناه صحيح؛ فالمسلم يدور حيث دار الإسلام، يتبع دين الله لا يحيد عنه.
ونجد هذا الفقه حاضرًا في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد خرج جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- على رأس المهاجرين للحبشة وهو ابن أبيه، صاحب المنعة والمكانة بين قريش، فكان أقل الصحابة حاجة للرحيل عن مكة، لكنه مع ذلك تقدمهم في الخروج من وطنه. فدار مع الإسلام، ولبَّى حاجة هذا الدين العظيم لإنشاء موقع بديل له في أرض الحبشة حين حاصره اضطهاد قريش.
لم يفكر جعفر -رضي الله عنه- في نفسه فقط بل في كل المسلمين، في مصير أمة مسلمة. على هذا الأساس كانت هجرته، وكذلك كانت هجرة الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، من مكة إلى المدينة. فلم يكن عمر بحاجة للخروج من موطنه لضعف فيه أو خشية من إظهار إسلامه بين كفار قريش، لكنه خرج لإنشاء دولة الإسلام في مكانها الذي أراده الله لها.
وأبعد من هذه النماذج التي تملك القوة والمنعة، تتجلى لنا فريضة العمل للإسلام عند الضعفاء، فقد وصف الله تعالى المهاجرين الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة. فقال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر: 8). فقد كان من دلالة صدقهم، نصرة الله ورسوله. فتلك فريضة لم يُستثنَ منها قوي ولا ضعيف.
ثم لأنها موجبة للنصر والتمكين، وهو أمر راسخ في القرآن، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (محمد:7). وقال سبحانه: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).
فالمعادلة واضحة، تنصر الله ينصرك. ونصرة الله لا تختزل في التزام الإسلام في حدود نفسك فقط، بل بالسعي لإقامة دين الله في الأرض جميعًا.
الحياة للإسلام وبالإسلام
ومن يتأمل عدد الصحابة -رضي الله عنهم- عند وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم عدد من توفي منهم -رضي الله عنهم- في مكة والمدينة؛ يبصر كيف حمل هذا الجيل المتفرد مهمة إقامة الإسلام في الأرض، فسار كل منهم على فرسه لا يوقفه شيء، لينشروا دين الله في أراضٍ بعيدة جدًا يجهلون ما ينتظرهم فيها.
وتشير إحصائية ذكرها الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل -في معرض حديثه عن فريضة العمل للإسلام التي فصلها تفصيلًا مستفيضًا- عن أن عدد الصحابة بلغ عند وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- 124 ألف صحابي، ثم توفي أكثر من 92% منهم خارج الجزيرة العربية، أيْ أن نحو 114 ألف صحابي خرجوا وساحوا في أرض الله الواسعة حتى لقوا ربهم بعيدًا عن وطنهم.
لم يمنعهم عظم أجر الصلاة في مكة والمدينة من الحركة والسعي في الأرض؛ لأنهم أدركوا بالمقابل، عظم أمانة التكليف بحمل رسالة الإسلام، لم تتأثر عزماتهم بمثبطات الدنيا، ولا أي سبب يجعل من المكوث أفضل لهم. فكانت سيرهم انعكاسًا عمليًا لهدى الآية الكريمة (لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (الفتح: 9).
لقد كان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تمامًا كما تصف الآية، نعم السند والناصر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولذلك حملوا رسالته بأمانة وصدق؛ فتوارثتها الأجيال في كل الأرض لتصلنا اليوم بعد أكثر من 14 قرنًا، ولنحملها نحن بدورنا للأجيال من بعدنا. وهذا تكليف يقيم بنيان الإسلام في الأرض، لا يمكن بدونه أن يُقام.
وبهذا الفهم، تحركت القبائل العربية إلى عمق القارة الإفريقية، تحمل رسالة الإسلام في الصحاري والأدغال؛ فبقيت آثارها في أسمائها التي بقيت في هذه المناطق الإفريقية إلى اليوم. بل بلغت آثارها أقصى الشرق والغرب. وهذا مفهوم الآية العظيمة (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162). فإن المسلم يعيش حياته كلها بالإسلام وللإسلام.
ومن أجمل الأمثلة على هذا التطبيق العملي لهذه الآية، قصة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وهو يسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “لا إيمان لمن لا هجرة له”. بعد أن أذن الله للمسلمين بالهجرة للمدينة، ففزع أبو بكر للأمر وهيّأ نفسه دون أدنى تردد، يحمل الخشية من التخلف عن أمر الله، ويهم للرحيل عن موطنه إلى بلد جديد لا يبالي بما يمكن أن يلاقيه فيه، فذهب يستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخرج إلى الهجرة فأمره بالتريث لعل الله يجعل له صاحبًا.
وهكذا أخذ الصحابة أمر الدين بقوة، لم يتأخروا لحظة في فدائه بالنفس والنفيس، لم يسمحوا لأنفسهم بتفضيل أي شيء على الإسلام؛ فقدموا كل ما يملكون في سبيله، بل جعلوا مخططات حياتهم برمتها مبنية على نصرة الإسلام وإقامة الإسلام في الأرض؛ مصداقًا لقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (الصف: 14).
فالمؤمن منصور بنصرته لله -سبحانه-، مؤيّد بتأييده لهذا الدين العظيم. وهذه سبيل التمكين. وهكذا يصنع الإسلام بالإنسان، يقيمه على الاستقامة على منهج واحد يلتزم به الجميع فيكون الأداء والعطاء لا نظير له. وينسجم الجميع في تناغم، في سبيل إقامة الإسلام برسوخ وقوة، فتنهار أمام وحدتهم على هذا المنهج أعتى القوى وينهزم أعتى الجبابرة.
الإسلام منهج حياة
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (النساء:77).
والإسلام يحدد لك مهمتك في الوقت المناسب لها، فما يأمرك به في حال قد ينهاك عنه في حال آخر. لذلك الأحكام جعلت لمصلحة الأمة برمتها لا مصلحة الفرد بحد ذاته فحسب.
وهكذا بدأ الإسلام بإقامة أحكامه في أمة خرجت من الجاهلية، فكان انتقالة خطيرة محورية لإخراج الناس من ظلمات هذه الجاهلية إلى نور الله. حيث تعلم المسلمون منذ بداية طريقهم متطلبات حمل رسالة هذا الدين، فحملوها عارفين بحقيقة أن مهمات العقيدة وقضية الدين ليست أمرًا موكولًا تحقيقه إلى القدر إنما لكل فرد منهم، وأن صناعة النصر لها أسبابها لا بد أن سعي المسلم أحد ركائزها. لقد فقهوا جوهر التكليف!
وبهذا كانت فريضة العمل الإسلامي ذات أولوية لدى الجيل المتفرد منذ بداية البعثة، فهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، لذلك كانت حياتهم مُسخّرة كلها ليحكم الإسلام وتكون كلمة الله هي العليا. وبفضل صدق تفانيهم وتضحياتهم ومسابقتهم في أداء هذه الفريضة وصلت الدعوة لمشارق الأرض ومغاربها لا تهاب أمة مهما بلغت بها القوة من مبلغ، وبذلك فقط يزول الطغيان والفساد من العالم وتسعد أمة الإسلام وتزدهر. ولكن لكل مجد ثمن!
لكل مجد ثمن
قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111)
فقد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم، مقابل الجنة، ليس بمجرد الالتزام بالعبادات الفردية بل بالقتال في سبيل الله! وهنا نشاهد تقديم النفس في سبيل هذا الدين وهذه الأمة لتحيا هذه الأمة.
ثم تليها الآية الجليلة: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة: 112).
فهذه صفات من يقيم أمر الله ويحمل هدى الإسلام، تجمع بين العبادات الفردية والعبادات الجماعية: يقيمون الصلاة ويذكرون الله. وفي نفس الوقت يسيحون في الأرض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويحفظون حدود الله. والجميع مطالب بحفظ حدود الله في المجتمع المسلم.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا”. صحيح البخاري.
وهكذا كل ما تقدمه من جهود وتضحيات في سبيل الله، كل فداء بالنفس والنفيس لنصرة الدين والمسلمين يعود بخيره عليك وعلى الأمة المسلمة برمتها. قال تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (التوبة: 52). فالمسلم إن عاش عاش منتصرًا رافعًا راية الإسلام عالية، وإن مات مات شهيدًا في سبيل الله وإقامة دينه في الأرض.
فريضة تستمر على امتداد محور الزمن
ثم تدبر بخشوع قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ) (النساء: 135). يقول الله لهم: “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط”، في تفسير الطبري، يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط يعني: بالعدل “شهداء لله”.
“قوامين”، يحرسون هذا الدين بحفظ العدل في الأرض كل الوقت ومع كل الناس. فالأمة المسلمة خير أمة أخرجت للناس بإقامة هذا العدل بلا تفرقة بين الشريف والوضيع، والإسلام منظومة كاملة للعالمين. نشاهد ذلك من خلال الأحكام في دين الله، وحفظ الحقوق لغير المسلمين؛ كحقوق أهل الذمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا تمييز بين طبقات الناس، حتى المسلم يُحاسب عند اعتدائه على غير المسلم من أهل الذمة والعهد.
وهكذا يمضي الإسلام في تنظيم حياة العبد والأمة في تناغم وانسجام بديع، بعبادات بعضها من بعض، فالصلاة والصوم لا تنفك عن الجهاد والنهي عن المنكر. لتحل بركاته كاملة ويتحقق الوعد الحق بالتمكين المبين.
والدين يؤخذ كاملًا -بلا اجتزاء كما فعل بنو إسرائيل- لنطمع في تحصيل بركاته وانتصاراته كاملة كما في القرآن الكريم وشهد له تاريخ المسلمين المجيد.
الوعيد لمن تخلف
ثم ليس الأمر قضية اختيار ولا مبالاة وتسويف وكسل، بل قضية حساب شديد ووعيد عظيم لمن آثر حب نفسه على حب دينه. قال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24).
فكيف يطيب لمؤمن القعود عن نصرة دينه بما يقدر عليه وهو يرى الوعيد شديد لمن آمن لكنه أهمل أمر الله في الجهاد ونصرة دينه؟ قال تعالى: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة: 120).
ومن يتخلف عن أمر الله ورسوله يلاقي حسابه في الدنيا قبل الآخرة. عن حذيفة رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: “والَّذي نفسِي بيدِه، لتَأمُرنَّ بالمعروفِ، ولتَنهونَّ عَنِ ال+منكرِ، أو ليوشِكنَّ اللهُ أن يبعثَ عليكم عِقابًا منه، ثمَّ تدعونَه فلا يُستجابُ لكم”. رواه الترمذيُّ، وقال: حديثٌ حسن.
والفتنة تتربص بمن يتخلف عن نصرة هذا الدين والركون للظالمين. قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 25).
ثم إن عاقبة مخالفة أمر الله عظيمة مرعبة، قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) (المائدة: 13). فأول العقاب قسوة القلوب وهذا المصاب الجلل، الذي يحرم صاحبه البصيرة والعمل. ثم خسارة في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة وذلك الخسران المبين.
وأما من اتبع أمر الله ورسوله، فيجزيه الجزاء الأوفى ويغفر له ذنوبه. قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (المائدة: 12). فنصرة الدين أصل أصيل في التزام الدين، وسبب عظيم للمغفرة.
الركون للظالمين موجب للعقاب
والصمت عن ظلم الطغاة وأئمة الكفر رغم القدرة على إنكاره من الركون إليهم، ويحشر صاحبه في زمرة الظالمين -والعياذ بالله-. والإنكار درجات في الإسلام فلا يتملص منه أحد. عن أبي سعيدٍ الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”؛ رواه مسلم.
بل يعاقب من ترك هذه الفريضة، بعقاب شديد كما كان عقاب بني إسرائيل، فلعنهم أنبياؤهم قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (المائدة: 78 – 79).
فالقضية التزام بنصرة هذا الدين وإقامة بنيان الإسلام في الأرض. وهو أمر صريح للنبي ومن تبعه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة: 73). ولولا ذلك لطغى أعداء الله في الأرض وساموا المسلمين سوء العذاب: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (التوبة: 10).
وهذه الفريضة من صميم سنة التدافع، فأن تستقوي الأمة ويعمل كل فرد منها لدينه يعود ذلك بالخير على الأمة وعلى هذا الفرد. وإلا فلن ينجو إلا من التزم بأمر الله وأخذ الدين كاملًا. قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف: 165).
ثم لم يطلب الله من المسلم أن يفعل المستحيل بل أن يسعى على قدر استطاعته. وفي ذلك الدليل على أنها فريضة لا تسقط، بل الواجب السعي لأدائها بلا تسويف بما تيسر للمرء من أسباب. قال تعالى: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا) (النساء: 84).
ولا يقوم بهذا الدين إلا بسعي كل فرد فيه لأداء فروضه المتعلقة بذاته وبأمته. ثم إن سبيل المؤمنين في التمسك بكتاب الله -سبحانه-، وإقامة دينه وإصلاح الأرض قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف: 170).
وأما من اختار اتباع اليهود والنصارى وإماتة العمل لدين الله؛ فإنما تحول لمعول هدم في هذه الأمة، أدرك ذلك أو لم يدركه، إن لم يكن عدوًا حقيقيًا لها.
على المحجة البيضاء
ما من تفصيل في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ويقدم الحلول والهدى لانتشال الأمة المسلمة من قاع الضعف والهزيمة إلى قمة التمكين والظفر. فالمسلمون ليسوا بحاجة لأنظمة الغرب وأفكاره السامة، ولا لديمقراطيته وعلمانيته الفاسدة؛ إنما لهدى نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، لنهجه في الحياة، دين كامل متكاملة منظوماته، من أقامه علا شأنه ولا بد، ومن أبى فمصيره الذلة والصغار، والخسارة في الدارين. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك”[1].
وقد أدرك ذلك الصحابة مبكرًا في بيعة العقبة؛ التي تغيرت بها حياة الأنصار بشكل جذري، حين تحولوا لحراس للدين والعقيدة. فأصبحت حياتهم وأنفسهم وكل ممتلكاتهم وقفًا لدين الله. انطلق العهد بمجرد كلمات ليتحول لأعظم مشروع في تاريخ البشرية، بإقامة دولة الإسلام في جزيرة العرب التي امتد نورها لكل أصقاع الأرض في ظرف زمني قياسي.
ومن يتأمل تاريخ الأجيال المسلمة بعد هذا الانتشار المهيب للإسلام بفضل الله ثم تضحيات الجيل المتفرد؛ يجد أنها ما عرفت النصر والتمكين إلا بالإسلام، وحين حكمت بالإسلام، وما أن فرّطت فيه نال منها الضعف والهزيمة.
حفظ معاني الدين
ويعلم جيدًا أعداء هذا الدين أن كل السر وكل القوة تنبع من معانيه الجليلة التي يحملها؛ تلك المعاني التي تصنع الإنسان على نور من الله وتسخر له الأرض ليقيم حكم الله فيها، فتأمن وتسعد البشرية بشرع الله وهديه -جل جلاله-.
لذلك يحرص أعداء الإسلام على هدم معاني هذا الدين لهدم فرص إقامته كلها. فيركزون على هدم كل ما يدعو لفريضة العمل لدين الله، وتدجين الأجيال لتخرج نسخة معطلة لا تضر ولا تنفع.
ولا يمكن لمرابط على آيات الله وأحاديث نبيه إلا أن يدرك عظم المهمة، ويبصر كيف أن الدعوة لله والعمل على نشر دينه في الأرض وصلت لدرجة الركنية والفرضية ولم يُبخس فيها أدنى جهد. في صحيح البخاري، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “بلغوا عني ولو آية”. وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
نضر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغه كما سمع، فرُبَّ مبلغ أوعى من سامع[2].
فالتبليغ عبادة من العبادات، بل عبادة عظيمة يقوم بها الدين والإصلاح، وهذا الدين يقوم على النصيحة. فعن تميم بن أوس الداري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “الدين النصيحة ثلاثًا”، قلنا لمن يا رسول الله قال: “لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”. رواه مسلم.
والنصيحة أمانة في الدين، وهي من معاني الإسلام الجليلة المستهدفة؛ كما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح والسعي لنصرة الدين والجهاد وإقامة شريعة الله. كل هذه معاني الإسلام العظيمة لا يجب أن تهدم أو تهمّش.
ومن معاني الدين الجليلة التعليم، فهو يصل لدرجة الفرضية، فتعليم الناس دين الله فرض كفاية لكن افتقاده يأثم عليه الجميع. قال تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122).
وفي الحديث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ليعلمن قوم جيرانهم، وليفقهنهم، وليفطننهم، وليأمرنهم، ولينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم، ويتفطنون، ويتفقهون، أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا”[3]. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “مَنْ سُئِلَ عن عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يوم القيامةِ بِلِجَامٍ مِنْ نارٍ”. حديث حسن.
كلمة الحق حياة الأمة
فحياة المسلم هي حياة دينه، يعيش لأجل أن يقيم الإسلام في ذاته وفي وسطه وفي الأرض، بالدعوة والتعليم والجهاد في سبيل الله. ولذلك استحق المراتب العلا بحسب سعيه، ولذلك أيضًا جعل الله كلمة الحق حياة الأمة، وجعل من يموت دونها في أفضل مراتب الشهادة. في الحديث: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله”[4]. فلماذا هذا الفداء وهذه التضحية بالنفس لأجل كلمة؟ لأنها كلمة حق تحيا بها الأمة فكانت خير الجهاد.
إن الإسلام دين جعل أجر صاحب كلمة الحق، الشهادة، وما أدراك ما مرتبة الشهادة! وجعل نصرة المسلمين فريضة، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة. متفق عليه.
فلا يمكن أن ترى إخوانك المسلمين في كرب ثم تعكف على عباداتك الفردية فحسب بحجة أن هذا ديني! بل دينك الفزعة لنجدة المسلمين كما تفزع للصلاة!
وجوب الهجرة نصرة لدين الله
ويدخل في إطار النصرة لدين الله رفض العيش بين أعدائه، فلا يقبل الإسلام للمسلم إلا العيش في كرامة، ولا يقبل منه أن يهون عنده الدين لأجل دنيا دنية أو حظ من المال أو متاع فانٍ. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء: 97). فهذه الآية الخطيرة تؤكد عظم جريمة العيش بين ظهراني الكفار والمشركين الذين يحاربون دين الله ويمنعون المسلم من ممارسة شعائره بحرية، كما يحصل اليوم في العديد من الدول الغربية. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين”[5].
ففي ذلك دعوة صريحة للهجرة من ديار الكفر والفرار لسلامة الدين. والعقلاء لا يقبلون البقاء في دار يهان فيها دينهم ويضطهد فيها الحق من قبل الظالمين؛ لذلك سنَّ الإسلام الهجرة لنصرة الدين. وسن الجهاد لحفظ الديار المسلمة ونشر دين الله أيضًا.
وفي زماننا يعيش فصيل كامل كبير جدًا لا يعمل للإسلام شيئًا، وأدنى ما يفعله ويكتفي به، إظهار بعض شعائر الإسلام من العبادات الفردية. وهذا الفصيل الكبير هو في الواقع حمل كبير على أمة الإسلام. وعليه أن يدرك أن الإسلام دين عمل للفرد كما للأمة، لا يختزل في ذات الفرد.
وكيف يختزل والأمة تعيش أضعف أيامها، وكل ما تعانيه من نوازل يدفع المسلم دفعًا للعمل لنهضتها. وهل يسع المسلم اليوم إلا العمل الحثيث لتغيير حال أمته؟ لإقامة سلطان الإسلام في الأرض بكل ما تيسر له من أسباب، من إظهار كلمة الحق إلى الدعوة وإنكار المنكر، إلى الإعداد إلى الجهاد بالنفس والنفيس.
وهذا ليس اختيارًا بل فريضة يعاقب من تخلف عنها. وسبيل الوصول إلى الجنة، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 142).
إذا المسلم مطالب بفريضة العمل لدين الله، بالسعي لإقامة الإسلام في الأرض والتمكين له، ثم بعد هذا التمكين تستمر هذه الفريضة لحفظ هذا التمكين. قال تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج: 41). وهذه الاستمرارية في أداء فريضة العمل لدين الله هي التي تكفل استمرارية التمكين وإلا فالحرمان وسنة الاستبدال. قال تعالى: (قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 129).
ثغر التربية
إن التقصير الحاصل في هذه الأمة يجب أن يستدرك من ثغور التربية، بانتشال أطفال المسلمين من التيه والضياع وعمليات التدجين. فأسوأ ما ينتظر الطفل، تربية الصدفة؛ تربية لا منهجية فيها ولا قواعد ولا رؤية هادفة، ثم لا يُلتفت إليه إلا حين لا يجد والداه ما يشغلهما عنه، ثم يُطالب بالبرّ والنجاح والصلاح وحمل أمانة أمة!
وفاقد الشيء لا يعطيه. وكل مشروع نهضة وتغيير لا يهتم بإنقاذ الأجيال من تربية الصدفة، مشروع عقيم. قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) (طه: 132).
وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم:6).
فكيف إن تربت الأجيال على ما يريده أعداء الإسلام؛ فأعداء هذا الدين ينفقون ويبذلون كل ما يمكنهم لحصر الإسلام في العبادات الفردية واختزاله في المنازل والمساجد بل تجاوزا ذلك إلى محاولة إقصائه تمامًا من حياة المسلمين بالغزو العلماني، بينما الإسلام جاء ليمسك بزمام السلطان ويدير جميع منظومات الحياة في جميع الميادين والمجالات بتناغم وانسجام وتكامل وتلاحم.
فلا بد من تربية الأجيال على هدف: العمل لإقامة الدين كاملًا، بإقامة خلافة الله في الأرض، والسعي في ذلك حتى إن لم يتحقق في حياة الفرد. فقد أُعذر أمام الله، لأن كل جهد من أبناء هذه الأمة حين يكون مخلصًا صادقًا، جهد تكاملي تراكمي يظهر أثره في صناعة التمكين لدين الله حين يشاء الله أن يتحقق.
واجب المرحلة والواقع يفرض نفسه
إلى هنا نكون قد لخصنا أبرز المعالم لأهمية فريضة العمل للإسلام، إلا أننا مهما كتبنا من معانٍ؛ فإن الواقع يفرض نفسه فرضًا على المسلم لتغيير واقعه، فإما حياة عزة وكرامة وإما موت ذلة، لا خير دنيا فيه ولا حتى آخرة، لأنها قضية كينونة ووجود، فلا أقل من حمل النية وبذل الجهد في العمل في سبيل الله لإقامة دينه، فإن إقامة جميع فروضك الفردية لا تسقط عنك فريضة العمل لإقامة بنيان الإسلام، كما لا تنجيك من المحاسبة والعذاب في الآخرة.
قال رسول الله ﷺ: “من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه به؛ مات على شعبة من نفاق”. رواه مسلم. وعن سهل بن حنيف أن رسول الله ﷺ قال: “من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه”. رواه مسلم.
فلمثل هذه الفريضة، فريضة العمل لتمكين الإسلام في الأرض، فليعمل العاملون. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
المصادر
- رواه ابن ماجه (43) وأحمد (4/126) (17182) والحاكم (331) والطبراني (15352) كلهم بدون لفظة المحجة، وصححه الألباني.
- قال الترمذي: “حسن صحيح”، وصححه ابن حبان وأبو نعيم في الحلية.
- رواه الطبراني في الكبير وفيه بكير بن معروف قال البخاري:”ارم به”، ووثقه أحمد في رواية وضعفه في أخرى وقال ابن عدي أرجو أنه لا بأس به.
- رواه الحاكم – وصححه – والخطيب، وصححه الألباني.
- رواه أبو داود والترمذي وحكم عليه كثير من أهل العلم بأنه ” مرسل ” ؛ وصححه بعضهم كالألباني.
- خلق فريضة العمل لله، سنحيا كرامًا