إن المتأمل في المشهد اللبناني لا يأسى على شيء كما يأسى على حال أهل السنة فيه، تحت وطأة حزب الله الإيراني، تنال منهم أصناف الأذى خلف ستار القانون تارة أو على طريقة قطاع الطرق تارة أخرى.
ولم تزل مأساة أهل السنة في هذه البلاد ممتدة منذ الاستقلال المزعوم للبنان على الرغم من كونهم من أكبر الطوائف عددًا. ولعل في ذلك التفسير لكل ما تعيشه البلاد اليوم من فشل وانهيار.
فاستقلال لبنان تم بتدبير وهندسة المحتل الأوروبي، الذي عمل بمكر لسلب أهل السنة كل نفوذ وفرصة صعود أو وصول إلى السلطة تماما كما فعل في سوريا، وكأنها سياسة الخنجر، يُغرز في خاصرة الأمة كي لا تقوم لها قائمة، بدأ بتدبير فرنسي خبيث عمد إلى نقل نصارى سوريا إلى جبل لبنان ثم جمع مناطق أهل السنة على الساحل – طرابلس وبيروت وصيدا- تحت حكم رئيس ماروني. واستمر حال أهل السنة في الهامش حتى بعد الحرب الأهلية اللبنانية، فقد كانت خسائرهم الأكبر في هذه الحرب التي اندلعت بين طوائف لبنان بحضور صهيوني سوري للقضاء على الحضور الفلسطيني والسني المسلح في البلاد.
وحتى يكتمل المشهد اجتاح جيش الاحتلال الصهيوني لبنان ليمهد لسيطرة الجيش السوري بقيادته النصيرية، بهدف القضاء على أي قوة منافسة مسلحة، فتم بالفعل القضاء على القوة الفلسطينية المسلحة والجماعات السنية التي امتلكت السلاح وقوي أمرها،كحركة التوحيد الإسلامية التي كانت تعد أقوى تنظيم سني مسلح في الشمال اللبناني، وسُطرت المجازر البشعة بحق أهل السنة في ذلك الوقت ولا تزال ذكراها الأليمة تتردد إلى اليوم.
وفي المقابل حافظ النصارى والدروز وحزب الله الإيراني على أسلحتهم. ثم ساد في البلاد الأقوى عسكريًا بغض النظر عن عدده ولأن أهل السنة تم تجريدهم من السلاح، كان مصيرهم مصير المستضعف.
وما أن بدأ رفيق الحريري يستقوي بعلاقاته الدولية الواسعة مع أنه لم يكن يمثل ذلك التهديد الجاد لهيمنتهم، حتى تم التخلص منه بالاغتيال ولم يكن أول زعيم سني يتم تصفيته، فقد تكرر ذلك من قبل بهدف إجهاض أي فرصة لاستقواء أهل السنة.
ثم مع ثورة سوريا تعلقت قلوب أهل السنة في لبنان بإخوانهم هناك، ذلك أن مصيرهم مشترك وعدوهم مشترك، فعاشوا معهم كل تفصيل ولحظة ألم أو جمع أو نصر، ولم يكن هذا التلاحم وبصيص الأمل ليغيب عن ميليشيات إيران في لبنان، حيث حاصرت مناطق أهل السنة في كلا البلدين، وخاض أهل السنة في لبنان معركة وجود بالموازاة مع أهل سوريا، لكنها لم تحظ بالاهتمام ولا النصرة التي تليق بها. واستغل حزب إيران في لبنان الظرف فقمع كل محاولة نهوض لأهل السنة، في صيدا وطرابلس والبقاع، مقدمًا الجيش اللبناني في الواجهة، وكل مراقب يعلم أن هذا الجيش ليس إلا أداة في يد الحزب الإيراني الذي يملك من القوة العسكرية أكثر من الجيش نفسه بمدد يصله من طهران. وأنه بات يسيطر على مقاليد الحكم ويتصرف في شؤون الدولة كلها.
ودفع أهل السنة ثمنًا باهظًا كما كان يدفعه إخوانهم في سوريا، فاعتقل شبابهم على مجرد اتهام بلا دليل أو تعاطف لازم، وتم التضييق عليهم اقتصاديًا واجتماعيًا، وكلما برز فيهم قائد تم تغييبه في السجون، وأضحى أهل السنة أكثر الناس فقرًا في البلاد، يؤكد ذلك خروجهم بكثافة في احتجاجات ساخطة متذمرة من الوضع المعيشي المذلّ والتي تم إجهاضها بمكر وتخطيط آخر لئيم من حزب الله الإيراني المهيمن.
ورافق هذا الاضطهاد والاستضعاف لأهل السنة ضعف داخلي في بنية النسيج المجتمعي الذي تفرق فيه رؤوس الأتباع فتفشت النزاعات والتشرذم، الذي هو صورة مصغرة لما يجري في العالم الإسلامي. وتلك نتيجة محتومة لإهمال الاعتصام بحبل الله ولابد أن يورث فينا الضعف والفشل.
وإن المتبصر في تاريخ أهل السنة في لبنان ثم ما آل إليه حالهم ضعفاء يتربص بأحلامهم وطموحاتهم بل حتى حقوقهم حزب إيران، يدرك أن أول عدو خطير لهم هو الذراع الإيرانية في البلاد تماما كما هو حال أهل سوريا تحت عدوان الذراع الإيرانية الأخرى هناك، النظام النصيري. وهذه الحقيقة هي التي يجب أن يعيها أهل لبنان، أن حالهم لن يتغير ما داموا فريسة سهلة في قبضة حزب الله الإيراني. ولن يكون لهم تأثير ولا اعتبار بلا قوة تدفع عنهم الظلم، كما لإيران ميليشيات تهيأ لها الأمر الذي يبدو أنه لا يتم إلا على جماجم أهل السنة.
وهذه حال الرافضة في كل زمان ومكان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يصف الرافضة: “هم أعظم ذوي الأهواء جهلًا وظلمًا، يعادون خيار أولياء الله تعالى، من بعد النبيين، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ويوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين وأصناف الملحدين، كالنصيرية والإسماعيلية، وغيرهم من الضالين”. وقال في وصفهم أيضا: “فهم يوالون أعداء الدين الذين يعرف كل أحد معاداتهم من اليهود والنصارى والمشركين، ويعادون أولياء الله الذين هم خيار أهل الدين، وسادات المتقين … وكذلك كانوا من أعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديما على بيت المقدس حتى استنقذه المسلمون منهم”.
وَصدق ابن تيمية حين قال: “فقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين”. وقد شاهدنا ذلك في العراق وفي سوريا.
وفي الواقع لم يتأزم حال المسلمين في العراق والشام إلا منذ تحالف الرافضة مع الغرب، فاستلموا منهم العراق على طبق من ذهب، وها هي سوريا تعيش نفس المكر، وكل ذلك بعد الاتفاقية النووية التي يبدو واضحا أنها كانت بمقابل وتبادل مصالح، بل وتمددوا بفضلهم في اليمن، فالرافضة البديل الأفضل عن أهل السنة في المنطقة، ولا ينخدع مسلم بشعاراتهم الزائفة، لأن فسادهم في الأرض بمباركة غربية لا يخفى على عاقل، لقد قدم الغرب الرافضة اليوم على أنهم السعاة لتحرير فلسطين، بتمثيليات مثيرة للسخرية، ليوهموا أهل السنة أن هذه الطريق، طريق الظفر واسترجاع المجد، يقوم عليها الرافضة لا أي مقاومة سنية. فكانت حيلة إبليس، بإضفاء لقب بطولة على خائن. وفي الواقع لا يصدق هذا الدجل إلا مغفل ساذج، ذلك أن مشاهد العدوان الرافضي على أهل السنة في العراق والشام لا يمكن أن يطويها النسيان لفظاعتها ودرجة قبحها.
ثم قس حال الرافضة مع الغرب اليوم، على حال الرافضة مع التتار الأمس، كما قال ابن تيمية:” والرافضة تحب التتار ودولتهم؛ لأنه يحصل لهم بها من العز ما لا يحصل بدولة المسلمين، والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين وهم كانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام وكانوا من أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام وقتل المسلمين وسبي حريمهم. وقضية ابن العلقمي وأمثاله مع الخليفة وقضيتهم في حلب مع صاحب حلب، مشهورة يعرفها عموم الناس. وكذلك في الحروب التي بين المسلمين وبين النصارى بسواحل الشام، قد عرف أهل الخبرة أن الرافضة تكون مع النصارى على المسلمين وأنهم عاونوهم على أخذ البلاد لما جاء التتار وعز على الرافضة فتح عكة وغيرها من السواحل وإذا غلب المسلمون النصارى والمشركين كان ذلك غصة عند الرافضة وإذا غلب المشركون والنصارى المسلمين كان ذلك عيدا ومسرة عند الرافضة”.
وتلك الأيام نداولها بين الناس، وحقد الرافضة متجذر في التاريخ، لم يسلم منه الصحابة وأمهات المؤمنين فكيف بأهل السنة اليوم، لكن أين المعتبر!
وقد قضت الحكمة أن الواجب على كل أمة تحصين نفسها ضد عدوين بارزين هما الأخطر على وجودها:
1- العدو الظاهر من صليبيين ويهود صهاينة وملحدين قال تعالى عنهم (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [البقرة:217] وَقَالَ سبحانه عنهم (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النِّسَاءُ: 89].
2- العدو الباطن من منافقين ومبتدعة ضالين وعبيد الغرب والعلمانيين والليراليين، من حمل اسم الإسلام والإسلام منه براء، قال تعالى عنهم (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المُنَافِقُوْنَ : 4[.
فهل ينفع أهل السنة في لبنان التباكي والشكوى أم هل سيحل مشاكلهم -التي أضحت معضلة بحد ذاتها- الركون لحكومة نصرانية فاسدة أو ممثلين لأهل السنة فاشلين؟! والأنكى منه استجداء عطف حزب الله الإيراني!
بل لابد من أن يتبصروا في حال أهل الشام كيف أحاط بهم الأعداء من كل حدب وصوب ومدد إيران وحزبها في لبنان سعار يتوعد ولا يخمد. ليدركوا أن الصراع أكبر من مجرد أزمة اقتصادية أو سداد ديون وتحصيل بعض الحقوق المعيشية، وأن الرافضة يقطعون المسافات الطويلة، من أعماق أفغانستان وكل زاوية في الأرض للمشاركة في الصراع المصيري في الشام، فإن المراهنة اليوم باتت على مصير أهل السنة في هذا العالم، ولا يخفى على عاقل كيف يتم تهجيرهم واضطهادهم وسفك دمائهم بدم بارد في العراق، ولا كيف سُحب البساط من تحت أقدام أهل السنة بالتدريج حتى أضحوا غرباء في ديارهم يخشون تربص الضباع بهم.
وإن كان هناك من حل أمثل، فهو تلاحم أهل السنة في العراق والشام ولبنان وكل مصر في هذه المنطقة، تلاحمًا يقف عقبة في طريق المشروع الصفوي الذي يعمل أتباعه على تحقيقه في عدة ساحات مترامية الأطراف. تلاحمًا بعيدًا عن الركون لأنظمة وظيفية كاسدة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك بعقلية “نفسي نفسي”، أو عقلية “هذا شأن داخلي”، بل لابد من استرجاع أمجاد الولاء للمؤمنين كافة والبراءة من الكافرين كافة وكل عدو ظالم.
وإنه لمن الخطأ الجسيم أن يستمر أهل السنة بلا قوة وشوكة يحسب لها ألف حساب، في عالم يحكمه قانون الغاب!
والتاريخ والحاضر كلاهما يؤكدان على أنه إن لم تكن أسدًا أكلتك الضباع، نهشت لحمك بخسة ودناءة. ثم لن تجد لك إلا الحسرة والندامة.
واليوم يتفانى الرافضة وحلفاؤهم في كل مكان لترسيخ مشروع امبراطوريتهم على ثرى العالم الإسلامي، وبيادقهم الحوثية باتت على مرمى حجر من بلاد الحرمين، مستغلين حرب الغرب على الإسلام وقمع الأنظمة للشعوب، فلابد لأهل السنة من العمل هم أيضا على مشروعهم الواعد، مشروع يتطلب الكثير من البذل والتضحية، إنه مشروع إقامة خلافة إسلامية على منهج النبوة تدوس على حطام حكومات سايكس بيكو وتجمع شتات المسلمين تحت سلطان واحد يحكم بشرع الله سبحانه وتعالى، لا ينهزم لعدو ولا يخضع لكافر. وهذا هو الحل الجذري الشامل وما دونه خطوات لجمع أسباب القوة التي لابد أن تصب في سبيل تحقيقه.