إلى د. آلاء النجار، خنساء زمانها، عظم الله أجرها وربط على قلبها ورضي عنها وأرضاها وأقر عينها بذريتها منعّمة في فردوسه الأعلى. وحفظها وحفظ زوجها وصغيرها وعوضهم العوض الأوفى، وجعلهم للمتقين أئمة.
أعلم أن كل الكلمات لا يمكنها أن تحتضن وجعك، ولا فجيعتك، وكل العبارات مهما بلغت من بلاغة وصدق عزاء، لن تكون شيئا أمام مصابك في فلذات كبدك.
فلغة الكلمات تتعطل، ومساحة الدمع أكبر من مساحة العين، وكل حديث عن مواساة يتصدع! ولكن لغة الإيمان شفاء، ولغة اليقين بشرى المؤمنين على امتداد الأزمنة والعصور والأماكن لا تمنعها مسافات ولا حروب ولا عقبات ما دام القلب نابضا بمحبة ربه جل جلاله وابتغاء مرضاته.
ومواساة المؤمنين عبادة، وولاء، وكما نزف جرحك نزفت جروح المسلمات في كل مكان يسألن الله أن يربط على قلبك ويعلي درجتك ويشفي صدرك.
إن الأم حين تفقد طفلا واحد، يحترق كبدها، وتبكيه إلى آخر رمق، كيف لا وهي ترى جزءا من روحها قد انتزع منها وفارقها في لحظة فجيعة، فلا تنساه وتعيش على ملامحه تذرف الدمع عند كل لحظة ذكرى وشجن. فينزل حارا كأنه توفي للتو في حضنها!
ولكن مع كل ذلك ومهما بلغت الفجيعة مبلغها في النفس، فـ (إن مع العسر يسرا) (ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، وهذا النور يوجبه الإيمان واليقين. فلا حول ولا قوة لنا إلا بالله العلي العظيم.
والله تعالى لا يترك عباده بدون ما يثبتهم ويربط على قلوبهم ويخفف من مصابهم، وبقدر الإيمان والاحتساب تنال أمة الله من الثبات والمواساة الربانية ما يجبرها ويهون مصابها، ولذلك فإن استحضار الآيات والأحاديث الجليلة في هذا المقام من تمام الفقه والاحتساب. ومن موجبات الثبات والهداية للنفس والخلق..!
فثبات المؤمنات لحظات الخطوب والفواجع، له موجباته في النفس المبتلاة، كما له موجباته في من حولها، فبثباتها تنال من فضائل الإيمان التي لا تناجز والمعية التي لا تبارى! وبذلك أيضا تتحول لمدرسة يهتدي بها التائهون في مستنقعات الكفر والرذيلة والتيه والعبث.
فالمواقف النابضة بالإيمان والاحتساب والتسليم لله الواحد الأحد، بمثابة منارات للهدى وحصانة للقلوب وحبل نجاة لكل من يبحث عن مخرج.
ثم الموت قدر كل حي، لا مفر منه أبدا، وإن لم يكن اليوم فغدا، وإن لم يكن بقصف أو في حرب ففي مرض أو حادث أو بلا سبب! حين يشاء الله جل جلاله، ولكن العبرة تمام العبرة في الخواتيم وشرفها، العبرة في مصير فلذات الأكباد إلى جنة أو نار! لنهنئ أو نسترجع! وشتان بين المكسب والنجاة وبين الخسارة والهلاك!
قال الله جل جلاله (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35).
ودخول تسعة من فلذات الأكباد إلى الجنة، نصر من الله تعالى وشفاء للصدور، وهو خير وأرحم للأم من أن ترى أبناءها قد كبروا ولم يضمنوا الجنة أو تنكبوا عنها.
وهذه أيتها الأم المجاهدة النبيلة، صفقة تمت والرضا بها من موجبات الفتوحات الربانية وفضائل المعية والتوفيق والقبول تستوجب الاستبشار.
قال الله عز وجل ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [ آل عمران: 171]
جعلك الله يا آلاء، ممن قال الله تعالى فيهم (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (البقرة:157)
وهنا حقا مقام تهنئة ورجاء الفضل لك ولكل مسلمة ابتليت بفقد عزيز وفجيعة ينزف لها قلبها، وفي هذا النور السماوي شفاء ووعد حق!
﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [ آل عمران: 140]
عن أبي حسان قال: قلتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّه قَدْ مَاتَ لِي ابنانِ، فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللهِ بِحَدِيْثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا؟ قالَ: نَعَمْ، صِغَارُهُم دَعَامِيْصُ الجَنَّةِ، يَتَلَقَّى أَحَدُهُم أَبَاهُ – أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ – فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ – أَوْ قَالَ بِيَدِهِ – كَمَا آخُذُ أَنَا بِصَنَفَةِ ثَوْبِكَ هذا، فَلَا يَتَنَاهَى حتى يُدخِلَه اللهُ وَأَبَاهُ الجَنَّةَ . رواه مسلم
وروى الترمذي عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ: دَفَنْتُ ابْنِي سِنَانًا وَأَبُو طَلْحَةَ الْخَوْلانِيُّ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَلَمَّا أَرَدْتُ الْخُرُوجَ أَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: أَلا أُبَشِّرُكَ يَا أَبَا سِنَانٍ؟ قُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَبٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ: ” ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ “. (السلسلة الصحيحة)
فكم بيتا ترتجين اليوم يا أم الشهداء التسعة! وهل من لقب يليق بك غير هذا اللقب!!
لقد ورد في الصحيحين أجر خاص لمن توفي له أكثر من ابن فصبر واحتسب، فعن عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا فَوَعَظَهُنَّ وَقَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ كَانُوا حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ” صحيح البخاري ومسلم.
وفي رواية عند البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَا مِنْ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ”.
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لا يَقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سَرّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له “. (صحيح مسلم)
وأنت تقرئين هذه النصوص تذكري أنها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم! من لا ينطق عن الهوى، خاتم الأنبياء وسيد الخلق أجمعين وأحبهم لله جل وعلا! من يعلم ما سيكون في أمته ويحفظ لهم البشرى!
قال ابن القيم رحمه الله:”فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزِّه وعافيته، ولهذا كان أشدُّ الناس بلاءً الأنبياءَ، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يُبتلى المرءُ على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شُدّد عليه البلاء، وإن كان في دينه رِقَّة خُفِّف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن، حتى يمشي على وجه الأرض وما عليه خطيئة” ، ” إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان ” (2/ 935).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ “. [صحيح رواه الترمذي وابن ماجه]
إن هذه الآيات والأحاديث مواساة لك يا آلاء من ربك جل جلاله ومن نبيه صلى الله عليه وسلم، إن هذا الفضل والأجر جبر من الله تعالى وبشرى لك ولزوجك وأولادك، بل هو التهنئة!
فهي مبلغ الأماني والمساعي، إنها الجنة، وشرف الخواتيم التي تُفدى ويبذل لها.
أوليست كل حياتنا في نهاية المطاف لأجل هذه الجنة! أوليست للنجاة من النار ونيل مرضاة الله تعالى! وأليس هذا الشرف كل ما نتمنى ونرجو ولأجله نصبر ونتجلد ونحتسب!
وكذلك علمنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم!
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، : «قعدت أنا وعبد الله بن جحش صبيحة يوم (أحد) نتمنى، فقلت: اللهم لقني من المشركين رجلاً عظيماً كُفْرُه، شديداً حَرْدُه، فيقاتلني، فأقتله، فأخذ سَلَبَه. فقال عبد الله بن جحش: اللهم لقني من المشركين رجلاً عظيماً كفره، شديداً حَرْده، فأقاتله، فيقتلني، فيسلبني، ثمّ يجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلت: يا عبد الله بن جحش، فِيمَ جُدِعتَ؟ قلتُ: فيك يا ربي. فوالله لقد رأيته آخر ذلك النهار وقد قُتِل، وإنّ أنفه وأذنه لفي خيط واحد بيد رجل من المشركين، وكان سعد يقول: “كان عبد الله بن جحش خيراً مني. وكان سعد يقول: كانت دعوة عبد الله خيراً من دعوتي”.
وقد كانت خاتمته رضي الله عنه كما تمنى وطلب، ولذلك كان يُعرف بالمُجَدَّع في الله!
و”من كان في الله تلَفُه، كان على الله خلَفُه”.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكيف والفجيعة في حال آلاء قد رافقتها بارقة السيوف وعدوان المغضوب عليهم وخذلان مشين فتاك وحصار حاقد خسيس نذل، وفي أرض مباركة! فكم من الاحتساب يسعك اليوم لابتغاء الجبر الأوفى وأعلى الدرجات عند المولى!
عن سعد بن أبي وقاص قال: يا رسول الله: أي الناس اشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى العبد على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً أشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حيث حسن صحيح.
واليوم فجعت يا آلاء، بفلذات كبدك كما ابتلي الأنبياء في ذرياتهم، فهذا أيوب عليه السلام ذهب كل أولاده وإبراهيم عليه السلام يؤمر بذبح ابنه فيوفي، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم دمعت عينه على إبراهيم، وهو من الابتلاء الذي يكتبه الله لعباده المؤمنين رحمة ومحبة وفضلا!
إن ملاحم الارتقاء يا آلاء ليست مجرد عبادات اعتدنا على أدائها في أمان أو دعة، وليست مجرد كلمات نرددها في لحظة ارتياح، ولا وظيفة نحبها ونخدم من خلالها المستضعفين، إنما هي الرضا لحظة الخطب والثبات لحظة الفقد، واليقين الذي لا ينهزم لحظة الفجيعة! فتلك هي أرجى امتحانات القبول والارتقاء. وتلك مقامات الصدق المنجية.
ووالله سنتنهي هذه الدنيا لا محالة، وما وعدنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حق، إن أحسنت الظن بمولاك، ستلتقين صغارك في الجنة، فتجدينهم في أحسن حال، قد سبقوك لدار خير من هذه الدار وجوار خير من هذا الجوار.
ويكفيك من كل ما جرى، أنك لن تقلقي بعد اليوم عليهم .. ولن تخشي من غدر قصف جبان ولا مغص جوع من خذلان مهان.
إنما الأمن والأمان عند رب العالمين، فأي مكان أكثر سعادة لهم غير الجنة!
لقد دلت الأدلة من السنة الصحيحة على أن أطفال المسلمين في الجنة، منها ما رواه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أطفال المؤمنين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة حتى يردهم إلى آبائهم يوم القيامة”.
وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: وأطفال المسلمين في الجنة إجماعا”. اهـ.
وهم يشفعون لآبائهم يوم القيامة في دخول الجنة، لقوله صلى الله عليه وسلم: يقال لهم: ادخلوا الجنة فيقولون: حتى يدخل آباؤنا، فيقال: “ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم”. رواه النسائي وغيره.
فرددي أم الشهداء!! وكل مفجوعة الدعاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) رددي بيقين لا ينهزم: “اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا” .. وكوني على يقين تام لا يدخله شك ولا ارتياب، بالاستجابة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال هذا الدعاء:” إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا”.
أحسني الظن بالله تعالى يا أمة الله، أحسني الاحتساب والصبر. فما عند الله خير وأبقى.
أنا لا أعزيك! إنما نعزي في الخسارة، وإنما أهنئك في مقام فخر ومحمدة، في مكسب وأمان! وأعلم أن ما ذهب له أبناؤك خير من كل هذه الدنيا وما فيها، وما اختاره الله تعالى لهم من شرف خاتمة وفضل، لا تناجزه كل زخارف الدنيا والأماني الحالمة!
بل هو ما أتمناه لنفسي وكل مؤمن صادق يرجو رحمة ربه! القتل في سبيل الله تعالى ولقائه في مقام مراغمة ونصرة للإسلام والمسلمين.
وإن ثباتك وسط هذه الملحمة ورضاك بقدر الله تعالى ووداع أحبتك، ليس بمرتبة هينة أبدا عند الله تعالى.
فلتعيشي هذا الفضل كاملا، وانظري لما بعده من موجبات ومحبة الله جل جلاله.
ولأن القلب قلب رقيق مرهف، ولأنك أمة الله المؤمنة، أوصيك وأوصي كل من فجعت بأحبتها، كي لا يشتد الحزن والكمد! وتتجاوزين الابتلاء برضا. وتحققي مرتبة الرضا الأرجى. وهي مرتبة من أرجى مراتب العبودية لله تعالى. تأملي هذه المعاني:
:.. فمِنْ أعظم نعم الله على عبده: تَـنَـزُّل السَّكِينَة عليه، ومن أعظم أسبابها: الرِّضا عنه”. (مدارج السالكين2-207 )
“فأمّا الرضا بالقضاء: فهو من علامات المُخبتين الصادقين في المحبّة، فمتى امتلأت القلوب بمحبّة مولاها رضيت بكلِّ ما يقضيه عليها من مؤلم ومُلائم”. [مجموع الرسائل (113/1) لابن رجب]
جعلك الله من المخبتين الصادقين في المحبة، من الراضين عن ربهم الراضي عنهم جل وعلا، وليكن دأبك مع أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [ طه: 72]
(قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون).
أوصى ابن القيم ببصيرة العالم العارف من أصيب مصيبة وفجع بفجيعة وكرب:
” أن ينظر إلى ما أصيب به فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه ، وادَّخر له إن صبر ورضي ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي .
“أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة ؟ وأنه لو فتَّش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن شرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرَّت يوماً ساءت دهراً، وإن متَّعت قليلاً منعت طويلاً، ولا سرته بيوم سروره إلا خبأت له يوم شرور، قال ابن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحة ترحة، وما مليء بيت فرحاً إلا مليء ترحاً. وقال ابن سيرين : ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء .
“أن يعلم أن الجزع لا يردها – أي : المصيبة – بل يضاعفها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض” .
” أن يعلم أن فوات ثواب الصبر والتسليم وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة “.
” أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم، لا لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بالويل والثبور، والسخط على المقدور” .
“أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ويكفيه من ذلك ” بيت الحمد ” الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه، فلينظر أي المصيبتين أعظم: مصيبة العاجلة، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد، وفي الترمذي مرفوعاً: ( يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء)، وقال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس”.
“أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به، ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه طريحا ببابه، لائذاً بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعا قصص الشكوى إليه”.
“أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يفتقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظا لصحة عبوديته، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه ، كما قيل :
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم”.
” أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، يقلبها الله سبحانه، كذلك وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك، فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ” حُفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ” انتهى مختصرا من زاد المعاد ” (4/189–195)
وقال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “مصيبة تقبل بها على الله خير لك من نعمة تنسيك ذكر الله” .
فيا أخية، اعلمي أن هناك العديد من المسلمات فجعن مثلك، ومنهن من لم يعلم عنها أحد، ومنهن من لم تر جثث أبنائها ومنهن من حرمتهم أحياء، وكانت تسأل الله أن يقبضهم شهداء ولا يربون على كفر أو ذلة.
وكم من الفواجع تطويها الأيام وينساها الناس أو يغفلون عنها، لكن رب الناس لا ينساها ويجعل من القصاص لهم شفاء لصدور المؤمنين.
فاستبشري أيتها الأبية وتجلدي، وما يدريك! لعل الله أراد لك مرتبة لا تبلغينها إلا بهذا الصبر، فوالله إن مراتب السبق التي ترتقي لها بالصبر على البلاء هي السبيل لتحقيق الأماني السامقة أبلغ من كل اجتهاد في عبادة، لما في ذلك من ألم وصبر ومصابرة وثقل على النفوس!
لا تكثري النظر في ذكرياتهم، لا تراجعي صورهم ولقطاتهم، بل احتسبيهم بصدر راضٍ بقدر الله تعالى، ارحمي قلبك ولا تفجعيه أكثر، فإن استرجاع ذكراهم يذبحك! وأنت على ثغر وفي مقام رباط وجهاد، فتصبري وكوني القدوة، وكلما ضاقت عليك الأرض، ارفعي عينيك إلى السماء وقولي: يا رب!
تكفيك ورب السماء تكفيك، وتشفيك، فخذ يا رب من دمائنا حتى ترضى، ولا نذل ولا نركع لغير ربنا ومولانا. ولو تكالبت علينا كل قوى الأرض الكافرة المتجبرة.
تجلدي! فإنها الجنة وسلعة الله غالية وغالية جدا!!
أما تريدين أن تكوني بجوار النبي صلى الله عليه وسلم!
بجوار أمهات المؤمنين والصحب عليهم الرضوان.
فهل تعتقدين أنها مراتب يوصل لها العيش بلا ابتلاء أو فقد!
بل زلازل الامتحان حاضرة هنا بقدر إيمانك وإخلاصك، والارتقاء في ملاحم الإيمان هو تمام الفضل والنصر والتمكين وتهون له كل الفواجع والزلازل والآلام.
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) (البقرة:214).(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) (آل عمران:142).
قال الله تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 155 ، 156 ،157 )
وقال سبحانه : ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (آل عمران: 146) .
وقال جل شأنه: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10)
فاستحضري في هذه اللحظات أين أحبتك الصغار؟
إنهم في الجنة!
وموعدك معهم بعد اجتياز المرحلة المتبقية، فتجهزي لها، بالصبر والاحتساب لتنالي أعلى مرتبة!
قال عز وجل ﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [ الإسراء: 21]
ثبت الله أمته آلاء، وزوجها، وكل أهلها وأحبتها، ثبت الله كل مفجوع ومفجوعة، ثبت الله المؤمنين والمؤمنات في كل مكان وكل بلوى. وجعل جزاءهم مرضاته والجنة!
وأقدم ولا تقنع بعيش منغص *** فما فاز باللذات من ليس يقدم
وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها *** ولم يك فيها منزل لك يعلم
فحي على جنات عدن فإنها *** منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن العدو إذا نأى *** وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي *** لها أضحت الأعداء فينا تحكم
وحي على السوق الذى فيه يلتقى الـ *** محبون ذاك السوق للقوم يعلم
فما شئت خذ منه بلا ثمن له *** فقد أسلف التجار فيه وأسلموا
وحي على يوم المزيد الذى به *** زيارة رب العرش فاليوم موسم
وحي على واد هنالك أفيح *** وتربته من إذفر المسك أعظم
منابر من نور هناك وفضة *** ومن خالص القيان لا تتقصم
وكثبان مسك قد جعلن مقاعدا *** لمن دون أصحاب المنابر يعلم
فبينا همو في عيشهم وسرورهم *** وأرزاقهم تجرى عليهم وتقسم
إذا هم بنور ساطع أشرقت له *** بأقطارها الجنات لا يتوهم
تجلى لهم رب السماوات جهرة *** فيضحك فوق العرش ثم يكلم
سلام عليكم يسمعون جميعهم *** بآذانهم تسليمه إذ يسلم
يقول سلوني ما اشتهيتم فكل ما *** تريدون عندي أنني أنا أرحم
فقالوا جميعا نحن نسألك الرضا *** فأنت الذي تولى الجميل وترحم
فيعطيهمو هذا ويشهد جمعهم *** عليه تعالى الله فالله أكرم
فيا بائعا هذا ببخس معجل *** كأنك لا تدري؛ بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم
اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك
اللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما تحب وترضى ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيءٍ بعد.
اللهم أرنا في المغضوب عليهم يهود ومن حالفهم وساندهم عجائب قدرتك، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم وأشعل الحروب في بيوتهم والنيران في قلوبهم واخسف بهم ولا تريهم أمنا ولا أمانا ولا راحة ولا أملا. اللهم ضيّق عليهم حياتهم واقتص لكل قطرة دم سفكت وكل روح أزهقت. واجبر المفجوعين الجبر الأوفى، اللهم قد طال ليل الظالمين فعجل بالفرج والتمكين لدينك وأوليائك وحسبنا الله ونعم الوكيل.